مُنذ 65 مليون عام, كان هناك ديناصور يأكل فى سَكينةٍ – تمامًا مثلما كانت تفعل أجيال عديدة من الدّيناصورات – عندما لاحظ في السماءِ كُرةً من النّار تتحرّك تجاه الأرض حينها شعر بشئٍ من القلق, لكنه لم يظنّ أن تلك الكرة تمثِّل تهديدًا لوجودِه, وذلك لكونه عُضْوٌ في أكثر فصائل الحيوانات نجاحًا وأطولهم بقاءً على الأرض فى ذلك الوقت. وفى غضون ذلك, كان هناك حيوانٌ صغيرٌ يُشْبِه الفأر, وهو أحد أبسط الثدييات على وجه الأرض, يركض نحو الديناصور, ليأكل بعضًا من بقاياه.
إنّ تأثير الثّورة الصناعيَّة الرَّابعة يُشبِه تأثيرهذا النّيْزك الصّادِم, فهو يُطْلِقُ العنانَ للتطوير بشكل متضاعف السرعة, عن طريق الوسائل الرّقمية والإبداع البشرى لإيصال البشرية إلى مستوى غير مسبوقٍ من الرّخاء. وعلى الرَّغمِ من ذلك, فإن هذه الثّورة الرّقمية تُعَدُّ تحدّيًّا جوهريًا للأُسُسِ التَّقليديَّة للرأسمالية الحديثة, حيث أنها تُحْدِث تغييرًا فى ديناميكية الشركات والموظَّفين والأصول.
فمثلاً.. أكبر شركة لسيارات الأجرة في العالم (أوبر) لا تمتلك أيّةَ سيارات, وأكبر شركات التواصل الاجتماعي في العالم (فيس بوك) لا تُقدِّم أي محتوى خاص بها, وكذلك موقع مبيعات التجزئة الأكثر قيمة مالية فى العالم (Alibaba) ليس لديه أي مخازن. وأكبر مُزَوِّدى الخدمات الفُندقيَّة في العالم (Airbnb) ليس لديه أى ممتلكات خاصّة .. “هناك أمرٌ كبيرٌ يجري بكل تأكيد”ء على حدِّ تعبير “توم جودوين”.
إن خدمة مثل (أوبر) تُزَوِّد الكثيرين بمزايا كبيرة بما لا يدع مجالا للشكّ, حيث يمكنهم الحصول على خدمات أفضل بتكاليف أقلّ وبطريقةٍ أكثر مباشرة وقابليّة للمحاسبة.
على أي حال, لا شكّ أن الملايين من العاملين سيتأثرون بشدّة بسبب تلك المُتغيّرات والتي بدورها ستُغَيِّر معالم سوق العمل للأبد.
لذا يبقى السّؤال الأهم:
ماذا يمكن أن نتوقّع نحن (العاملون الحاليون أو المُحتملون) من هكذا ثورة؟
هناك بعض الصَّخَب الإعلامى حول مستقبل الوظائف (وفقًا للتقارير الصادرة عن المؤسسات الصحفية والبحثية مثل: [WEF= المنتدى الاقتصادي العالمي, معهد ميكنسى الدولى للأبحاث=McKinsey , Ford= الباحث الاقتصادى] وغيرهم الكثير, ولكن لتوضيح الفكرة بغض النظر عن الاستخدامات اللانهائية للبيانات والأرقام. دعونا نحدد ثلاث فئات تفيدنا في تصوُّر حجم التأثير النّاجم عن المتغيرات في الاقتصادات وسوق العمل على مُستقبَل كُلٍّ من الوظائف والدخول والأصول).
النينجا :No Income, No Job and No Assets
الفئة الأولى هي “النينجا”“Ninjas,” “No Income, No Job and No Assets ” وهو مُصطلح أُشْتُهِر على يد تشارلز موريس فى كتابه الصادر عام 2008 بعنوان “الانهيار الذي يساوي تريليوني دولار”. فالنينجا هو شخص ليس لديه دخل أو وظيفة أو أصول.
حيث نجد أن الأزمة الماليَّة العالميَّة أنتَّجت عددًا كبيرًا من الأشخاص التائهين في دوامة شديدة من اللا دخل واللا وظيفة واللا أصول ملكيّة, مُهَيِّئَةً بذلك المشهد لحالة من الظلم والإقصاء.
فحتَّى الآن تُعَدّ طبقة العُمَّال اليدويين الكادحة الأكثر تأثُّرًا بموجة التغيُّر التِّقَنِي والتي تمخّضَ عنها سخط العديد من تلك المجتمعات, إلا أن هناك موجات عديدة أخرى قادمة قريبًا ولن يسلم منها أصحاب المِهَن المرموقة, فــ “النينجا” في الغالب سيُستَثْنُون من الانتقال الجاري, نظرًا لعدم امتلاكهم المهارات المناسبة أو العُمر المناسب أو بسبب وجودهم في الأماكن الخطأ, أو افتقارهم لشبكة علاقات اجتماعية قويّة.
الـ Ojihas: عمل واحد، مصدر دخل واحد، وأصول صعبة الإسالة
الفِئة الثّانية, “Ojihas “One Job, One main source of Income, and “Heavy” Assets ” أو “الأوجيون” وهي فئة مهمّة لمساعدتنا على فهم وضعنا الحالى وما نجابهه, وهو اختصار يتكون من الحروف الأولى من المرادفات الإنجليزية للمفاهيم التالية: شخص لديه وظيفة واحدة, ومصدر رئيسي واحد للدخل, ولديه أصول ملكية عسيرة التصريف كسيولة، لذلك فالشخص “الأوجى” العادي يشبهك أنت في الغالب, كونه يملك وظيفة واحدة أساسيَّة, ومصدر رئيسي وحيد للدخل, والعديد من أصول الملكية الشَّخصيَّة مثل: (المنزل, السيارة وغيرها) وهذه الفئة تتزايد أعدادها تدريجِيًّا مع مرور الوقت حيث تُعَدُّ في مُعظم الدّول المتقدّمة وظائف الدّوام الكامل هي النّمط المُعتاد في سوق العمل, وهم بدورهم يدعّمون الدورة القوية للفوائد المُرَكَّبة تي سمحت بالتّوَسُّع للرأسمالية التَّقليديَّة.
وبتطبيق ذلك على المثال المذكور في بداية المقال فإن هذه الفئة ستكون بمثابة الديناصور في العصر الطباشيري الذى يضربه النَّيْزَك (التغيير التقني) ويواجه مصيره بالانقراض أسرع بكثير من المُتَوقّع. حيث تَعميهُم قوّتُهم الغامرة الحالية وتفوُّقَهُم في النظام القائم عن رؤية أقدامهم التي على حافة الهاوية, كما أن السرعة المُذهلة في التغيير الرقمى تمنعهم من تعديل مسار البيئة الرّقميّة الجديدة لصالحهم, بالطبع ستقاوم هذه الفئة التغييرَ (مثل تظاهرات سائقى سيّارات الأجرة حول العالم ضد شركة أوبر), ودعونا لا نغفل الحقيقة بأنَّهُم أُناسٌ لهم أُسَر يعملون لكسب قوت يومهم يومًا بيوم.
الـ Modilals : أعمال عدة، مصادر دخل متنوعة وأصول سهلة الإسالة
الفئة الثالثة: تُعتبر بمثابة مفتاح لتصوُّر المُستقبل, وهُم Modilals “Multiple Occupations, Diversified Income, and “Light” Assets.”: وهي اختصار يتكون من الحروف الأولى من المرادفات الإنجليزية للمفاهيم التالية: أشخاص لديهم وظائف متعدّدة, ومصادر متنوعة للدخل, وأصول يسهل تحويلها لسيولة. فالعاملون في أكثر من وظيفة يتزايدون بشكل شائع, وذلك وِفْقًا لدراسة حديثة, فإنّ هناك أكثر من 53 مليون أميركيّ يمتهنون العمل الحُرّ, والأهمّ من ذلك أنّ جيل الألفينات يتجه نحو العمل الحُرِّ أكثر فأكثر وهم أشدّ تفاؤلًا تجاه هذا النوع من العمل. ويذكُر روبين تشايس المؤسس المساعد لشركة Zipcar أنَّ والده كانت لديه وظيفة واحدة فىي كل حياته, أما هو فسيحصل على 6 وظائف في حياته وكذلك أولاده.
فتنويع مصادر الدّخل لا يعني فقط الوظائف المتعدّدة, ولكنه أيضًا أخذ بزمام المُبادرة واقتناص الفرص الجديدة للدّخل مثل نماذج اقتصاد المُشاركة (أو التّشارُكي) (ِAirbnb) نموذجًا، التي تخلق مصادر إضافيّة للدخل.
فالأصول سهلة التسييل، مثل : (السيارات المشتركة، والغرف الفندقية مشتركة الملكية) تزدهر ليس فقط بسبب النموذج العالمى الجديد لاقتصاديات المشاركة (فرضيّة رايتشيل بوستمان بعنوان الإتاحة خيرٌ من التملُّك) ولكن أيضًا بسبب أنماط المستهلكين في العصر الجديد الذي نعيشه والوعي المتزايد بشأن الاستخدام الرّشيد للموارد الطبيعيَّة.
مثل الثدييات في العصر الطباشيري, فإن تلك الفئة الثالثة “Modilals” هي بمثابة الفصائل المُقّدَّر لها أن تنتصر على الكوكب وتتحكم فيه, وذلك ليس بسبب أنها الأقوى, ولكن بسبب أنها الأقدر على التكيُّف مع التغيير (وِفقًا لرؤية تشارلز داروين), فهى أكثر قُدرة على التّكيُّف وتلبية المُتطلبات الجديدة لسوق العمل: حيث الوظائف المتعددة تعني قابلية أكبر للتعلُّم والتواصل وتأدية مهام متعددة, فالمصادر المتنوعة للدخل تعني هامش أكبر للمخاطرة والمرونة, والاتجاه للأصول سهلة التحوّل لسيولة مالية مما يستلزم بدوره المفهوم للجديد للمشاركة عِوَضًا عن التملُّك والاستهلاك الرّشيد مما يسمح لتلك الفئة أن تزدهر في ظِلِّ تلك البيئة المُتغيِّرة.
آثار الارتطام
طوفان التغيير الرقمى قادمٌ وهو بالفعل بادٍ فى الأفُق, مُنذِرًا بالقضاء على سوق العمل الحالي, حيث نستطيع التنبّؤ بحدوث الآتي في سوق العمل بالشكل الجديد, أما بالنسبة للفئة الثانية التي تحدّثنا عنها “Ojihas” فستصبح نادرة بشكل متزايد, وستكون الفئة الثالثة “Modilals” هي الفئة السائدة, بينما ستكافِح الفئة الأولى “Ninjas” لكي تصبح من الفئة الثالثة “Modilals”, ويبدو المستقبل القريب كئيبًا حيث سينشأ صراع على العدد المحدود للوظائف المتخصِّصة في ظِلِّ الفجوات المتزايدة والمستوى المتدني للدخل والقوّة العاملة المتدهورة والتي لا تستطيع التحوّل للبيئة الاقتصادية الجديدة وكذلك الصّناعات المُتعثِّرة أو التي تشهد تحوّلات عنيفة.
ومن زاوية أُخرى, هناك أمثلة عديدة تُثبت أن الاقتصادات التشاركية يُمكن أيضًا أن تكون قوّة للخير, كما يمكن أن تُعزز طبيعة الخير فينا عن طريق خلق مناخ يسوده الثِّقة والإبداع وتكوين رؤية للعمل الجماعي المشترك.
لذا يبقى السؤال عمّا إذا كان طوفان التغيير الرّقمى سيتسبب للبشريّة في فوضى؟ أو سيُحقّق الرَّخاء؟ أو كلاهما؟ ونذكر في هذا المقام ماقاله كارل روجيرز, وهو خبير مُخَضرَم فى دراسة الطبيعة البشريّة: “عندما أنظر للعالم أكون متشائمًا, ولكن عندما أنظر للناس أكون متفائِلًا”.
وأنا كذلك عندما أنظر لمستقبل الوظائف والدّخل والأصول وأفكّر في الفئة الأولى (Ninjas) والفئة الثانية (Ojihas) الذين سيطولهم تأثيير التغيير ينتابني شعورٌ بالخوف والشكّ. ولكن عندما أنظر للفئة الثالثة (Modilals) أرى شعورهم بالحريّة والسعادة وإيمانهم بغاية ما يعملونه أشعُر وقتها أني مُفعَمٌ بالتفاؤلِ والأملِ.