عندما تسمع شخصًا ما يتكلم عن الباحث فلان فما أول ما يخطر ببالك؟
ربما شاب بمعطف أبيض ينظر في مِجهَرٍ (ميكرسكوب) متطور؟ أم رجل بلحية كثيفة ونظارات دائرية يكتب ملاحظات على دفتر بيد بينما يحمل كتابًا باليد الأخرى؟
هذا ما قد يخطر ببال البعض، لكن لمَ لم يخطر ببالك المدير التنفيذي للفيس بوك؟ أو مدرب فريق برشلونة؟ أو حتى مقدم برنامج تلفازي يشاهده الملايين؟
نعم! كل هؤلاء يُشكِّل البحث أحد أهم مقومات نجاحهم وما وصلوا إليه، ولا أقصد هنا البحث عن المعلومات وإنجاز الأبحاث فقط، بل في كثير من الأحيان يكون الأهم هو قراءة أبحاث الغير بالطريقة المثلى وفهمها بشكل جيد، وقبل ذلك كله معرفة كيفية تقييم الجيد من السيء.
ففي عصر محركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي، أصبح وصولك إلى المعلومة أسهل من أي وقت مضى، لكن أي معلومة؟ وهل كل المعلومات سواء؟
حرفة البحث
ليس الباحث المتمرس هو من يكتب جيدا، بل إن أول ما يجب على الباحث التميز فيه هو القراءة الجيدة، القراءة المتأنية الناقدة والواعية، والتي يستطيع التمييز من خلالها بين التعليم والتضليل.
فسواء أكنت تلميذًا في المرحلة الثانوية، أو طالبًا في بداية مشوارك الجامعي أو حتى باحثًا في طريقك لإكمال رسالة الدكتوراه، فإنَّ مهارة البحث عن المعلومة، جمعها، وتقييمها، ومن ثم صياغتها وتقديمها للجمهور المناسب بالطريقة المناسبة، تبقى كلها أساسيات لا يستقيم إتقان بعضها دون الآخر.
بداية رحلة طويلة
هذا المقال، إضافة إلى المقالات القادمة في هذا الباب ستكون عبارة عن قراءة متأنية في الطبعة الثالثة من كتاب the craft of research لكُتَّابه الثلاثة
فحتى كتابة هذا المقال لا أعلم كيف سأتعامل مع الكتاب لتقديم باقي المقالات، لذا فقد أترجم بعض الفقرات من الكتاب ترجمة كاملة – كما فعلت مع أولى فقرات هذا المقال – كما أنني قد أعيد صياغة بعض الأفكار وأغير في ترتيبها أو حتى أستعين بمصادر أخرى.
خلاصة الأمر هو أن المنتج النهائي لا يجب اعتباره ترجمة أمينة لمحتوى الكتاب ولا إنتاجًا أصيلا لكاتب المقالات، بل إن هذا المقال هو مزيج من الأمرين، وأعتزم أن تكون باقي المقالات على نفس الشاكلة.
لم أخطط مسبقا لكتابة هذه المقالات، لكن الفكرة جاءت أول ما أخرجت الكتاب المذكور سلفا من مكتبتي بغية قراءته تحضيرا لبدئي في كتابة رسالة الماجستير في الاقتصاد فقررت أن أضرب عصفورين بحجر، وأن أشارككم رحلة قراءتي للكتاب وتطبيق ما فيه
أول مشروع بحثي
إذا كنت في بداية مشروع بحثي مثلي، فقد يبدو الأمر لأول وهلة مخيفًا بعض الشيء، فكيف سأجد موضوعًا لبحثي؟ وكيف سأبحث عن المعلومات؟ وأين سأجد المصادر؟ وماذا يجب عليّ فعله بعد ذلك؟ كل هذه الأسئلة وغيرها تثير عند أغلب الناس قلقا ورهبة شديدين.
لكن لا تقلق، أنت لست وحدك! فحتى الباحثين المخضرمين – العهدة على مؤلفي الكتاب- يشعرون بنفس القلق والرهبة إذا أقبلوا على بحث في مجال جديد أو أرادوا الكتابة لجمهور مختلف، ولكن لا تقلق فنحن على الطريق الصحيح، فكل ما علينا فعله هو الاستفادة من الخبرات المتراكمة للباحثين السابقين مع بعض الصبر والتصميم.
هذا هو الطريق: الخطة أولًا
أسوأ سيناريو يمكن أن تخوضه هو أن تبدأ وأنت لا تعرف ما يريده جمهورك منك، سواء كانوا لجنة إشراف على رسالة جامعية، أو مديرك في العمل، أو حتى قراء مجلة أو زوار موقع إلكتروني.
الباحثون المتمرسون يعرفون أن أهم ما يساعدهم في الوصول إلى القراء هو وجود خطة للعمل، فمهما كانت بسيطة، حتى لو كانت بضع رؤوس لأقلامٍ على ورقة بيضاء، بل حتى لو كانت مرسومة في ذهن الباحث فقط، كل شيء سيكون أفضل من بدء الكتابة دون خطة!
في الواقع، يوجد نوعان من الخطط التي يجب استخدامها في المجال البحثي؛ خطة تساعد الباحث في الاستعداد للقيام بالبحث، وأخرى تعينه على كتابة المسودة الأولى للتقرير الذي يجب أن يقدمه كنتيجة لمجهوده البحثي.
- في الغالب، يبدأ الباحث المتمرس بسؤال يشغله وخطة تساعده في الإجابة عنه، قد لا يعرف الباحث الإجابة بدقة في البداية، لكنه على الأقل يعرف كيف يجب أن تكون هذه الإجابة بالتقريب.
- كما أن الباحث الخبير، يعلم أنه عندما تتوفر لديه إجابة عن سؤال بحثه، فإنه لا يجب عليه أن يبدأ مباشرة في الكتابة إلا بعد أن يضع خطة محددة تساعده في كتابة المسودة الأولى من بحثه.
ومع ذلك، فإن أكثر الباحثين تمرسًا يعرفون أن هذه الخطة ليست سيفًا على أعناقهم، فهي وضعت ليتم تعديلها وتحسينها مع تقدم الباحث في الكتابة متى لزم الأمر ذلك.
ومع ذلك يعلم الباحث الماهر أنه يجب عليه أن يضع خطة قبل البدء في الكتابة حتى وهو يعلم علم اليقين أنه سيغيرها مرارا وتكرارا.
إنَّ استخدام خطة في التحرير والالتزام بها لا تساعد الباحث فقط في الكتابة، لكنها تسهل أيضا على جمهوره قراءة نتيجة بحثه.
في الواقع، يستخدم الباحثون الذين ينتمون إلى نفس المجال خطط كتابة موحدة. فالمحاسب يستخدم قالبا محددا في كتابة تقاريره المالية ليس فقط لمساعدته في إنجازها، بل أيضًا لمساعدة المستثمرين في قراءتها وفهمها بالطريقة المثلى في أسرع وقت.
أما في مجال البحث العلمي، فيستخدم الباحثون في مختلف العلوم التجريبية مثلا طريقة موحدة في كتابة الأوراق البحثية، وذلك باتباع ترتيب معين يمكن تلخيصه بالشكل التالي
- العنوان
- أسماء الكتاب
- الملخص abstract
- المقدمة
- منهجية الدراسة
- نتائج الدراسة
- مناقشة نتائج الدراسة ثم الخاتمة
- المراجع ثم الملحقات
وعلى الرغم من وجود هذه القوالب الموحدة، فإن الباحثين في مختلف المجالات تبقى لهم الحرية الكاملة في عرض أفكارهم واكتشافاتهم الخاصة. مع بقاء خطة الكتابة الواضحة تساهم في الكتابة بفعالية وإتقان.
وسواء كان الأمر يتعلق بالخطة الخاصة بإيجاد أسئلة أو البحث عن أجوبتها، أو بخصوص خطة الكتابة وتقديم النتائج، فسلسلة المقالات هذه ستساعدك قدر الإمكان على القيام بالأمرين على أكمل وجه.