أزمة 1929 – البداية
عام 1929، بينما كان معظم الأمريكيين يظنون أن سنوات الرخاء هذه ستستمر إلى الأبد ، استيقظ الأمريكيون على كارثة، أكبر انهيار يصيب سوق الأسهم منذ نشأتها، وقع الجميع بحالة صدمة من هول الكارثة التي حلت عليهم ، وتلا ذلك إفلاس الآلاف من البنوك والشركات، وفقد الملايين وظائفهم، وانتشر الفقر بين الناس، أتبع ذلك ما عرف ب “الكساد الكبير” الذي انتشر أثره واستمر حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية .
لتتضح الرؤية يجب أن نعود إلى عام 1919 وقت انتهاء الحرب العالمية الأولى وانتصار بريطانيا والحلفاء، حيث كانت بداية الأحداث التاريخية التي غيرت شكل عالمنا حتى اليوم.
ما يهمنا هنا هو الواقع الذي كانت تحياه أمريكا في تلك الحقبة ، مع انتهاء الحرب العالمية الأولى وخروج أمريكا منتصرة لم يصبها ، بسبب بعد أراضيها، شيء من دمار وجحيم الحرب كما أصاب أووربا، سادت حالة من التفاؤل وازدهار الاقتصاد وزادت ثقة الأمريكيين في أنفسهم حتى ظنوا أن هذه الحقبة ستدوم إلى الأبد، انغمسوا في أكبر فورة من الإسراف حدثت في التاريخ وبسبب كثرة الاختراعات أصبحت الرفاهيات من الأساسيات بسبب ازدياد النمط الاستهلاكي السائد ، ورفع شعار (اشتر الآن، وادفع لاحقا)، وكان شعار العامة في تلك الفترة (عش لهذه اللحظة).
صاحب هذا السلوك الاستهلاكي اعتقاد عام في المجتمع أنهم يعيشون حقبة اقتصادية جديدة من الازدهار ستدوم إلي الأبد ، وأنه من حق كل مواطن أن يصبح ثريا، وغذي هذا الاعتقاد العديد من السياسات الاقتصادية والمصرفية، من الاقتراض السهل، والقدرة علي الصرف أكثر.
هنا وجد بعض المصرفيين والسماسرة في وول ستريت – حيث سوق الأسهم – فرصة وظنوا أنه باستطاعتهم الاستفادة من ثقافة الاستهلاك الجديدة هذه في تكوين ثروة .
وعزز هذا الشعور أنه في بداية الحرب أصدرت الحكومة الأمريكية سندات لتستطيع الاقتراض من العامة والإنفاق علي هذه الحرب . ونتيجة لهذه السندات وجد الأمريكيون أنفسهم ولأول مرة مستثمرين في السندات مع فائدة نصف سنوية ، بالإضافة لقدرتهم على التجارة بها في سوق الأسهم، فعززت هذه السندات ثقافة الاستثمار لدي العامة فقدر هؤلاء الصيارفة أنه إن كان بإمكان الكثير من الناس شراء السندات الحكومية فهم بالتالي قادرون على شراء أسهم الشركات .
المهم أن تعزف علي الوتر الصحيح. الثراء السريع، والربح السهل، والاستثمار المضمون الآمن المحترم، هكذا تم التسويق للأمر.
حلم الثروة
كمآ ذكرنا أعلاه، فإن المضاربين وبالعزف علي الوتر الصحيح “حلم الثراء السريع والاستثمار المضمون والآمن” استطاعوا أن يسوقوا أفكارهم، وعزز هذا الأمر قيامهم بفتح مكاتب للسمسرة في جميع أنحاء أمريكا حيث يتواجد أصحاب المدخرات الذين يجهلون كيفية استثمارها ، وساهم انتشار أجهزة التلغراف الشريطية في تسهيل متابعة العامة لأخبار التداول ومؤشرات الأسهم بصورة آنية .
وهنا بدأت الأزمة وكان هناك سببان رئيسيان لها:
أولهما، التعاملات القذرة للمصرفيين والسماسرة فبسبب الطمع والبحث عن الثراء كان هناك سعار في المضاربة ، وعزز هذا دخول الكثير من العوام إلى السوق حتى أنه بمنتصف العشرينيات دخل 3 ملايين أمريكي إلي البورصة، وكان هذا بسبب القصص التي تروى عن الثراء السريع، ودخول المشاهير في هذه اللعبة، وأدى غياب التنظيم والرقاب الحكومية إلى ازدياد تلك المعاملات ، ولقد كان للاقتراض السهل للأموال دور في هذا. وهذا هو السبب الثاني.
ويقصد بهذا اقتراض الأموال لشراء الأسهم فواقع الحال في تلك الفترة أنه ما كان على المستثمر الراغب في شراء الأسهم سوى أن يدفع ما قيمته تتراوح بين 10٪ إلى 20٪ من قيمة الأسهم إلى مكتب السمسرة كضمان للقرض ويقومون هم بدفع باقي القيمة على هيئة قرض ، وهكذا أصبح الجزء الأكبر من قيمة الأسهم المتداولة في تلك الفترة يرجع إلى أموال مقترضة ، وكل هذا تم بناء على أن أسعار الأسهم دائما ما ترتفع ، وأن المؤشر يسير في اتجاه واحد، وأنه بإمكان المستثمر السداد عند ارتفاع الأسعار دون وجود أية ضمانات حقيقة لتغطية هذه القروض .
بهذا انتقلت سياسة الشراء بالآجل من سوق السلع إلى سوق الأسهم ، ووصل الأمر أنه في أواخر العشرينيات ومع انفجار الأزمة كانت نسبة 90٪ من الأسهم المشتراة تتم بنقود مقترضة، وأصبح جزء كبير من الاقتصاد موجه إلى إقراض المال لسوق الأسهم ، حيث كان 40٪ من المال المقترض موجه فقط إلى البورصة.
ما كانت لتنمو هذه المضاربات إلا في ظل مناخ مشجع على النمو، حتى أنها وصلت إلى رأس السلطة، فالرئيس “كالفن كولدج” والذي تولى الرئاسة عام 1923 كان من المضاربين الصامتين ضمن مجموعة وول ستريت، وكان يرفع شعار “بيزنس از بيزنس” متبعا بذلك سياسة السوق الحر، وعدم التدخل في التجارة، ووصف عدم تدخله هذا بالاستهتار، بسبب العلاقات المتشابكة والمصالح المتبادلة بين رجال السياسة وأصحاب المصارف ورجال الأعمال.
وبدأ الانهيار
في ظل غياب الإشراف الحكومي عن وول ستريت، واشتعال سعار المضاربة في ظل حالة من الجهل المطبق بطريقة العمل الحقيقية في وول ستريت من قبل المضاربين الهواة المضللين بالارتفاع الشديد والمستمر في قيمة الأسهم ومع انتشار المعاملات غير القانونية ووجود الكثير من التلاعب في السوق وتحوله إلى نادي قمار كبير يتحكم فيه المضاربون المحترفون.
هنا بدأت إرهاصات الأزمة تلوح في الأفق، وانتشر بين بعض المضاربين والصيارفة الكبار بسبب الارتفاع المستمر في أسعار الأسهم دون توقف بعكس طبيعة الأمر .
هنا انسحب البعض في صمت ، وحذر الآخرين من خطورة الموقف لكن لم تكن هناك آذان صاغية ولم ينتبهوا إلا بعد فوات الأوان ، وتحججوا أن سوق البورصة سوق عالمي وبحالة جيدة وأنه دوما ما يصحح السوق نفسه .
وبمغيب شمس يوم الأربعاء 23 أكتوبر بدأ السوق في الانهيار وبدون مقدمات، ولم يعلم أحد السبب الرئيسي الذي أشعل فتيل فقدان الثقة المفاجئ ، وبلا سبب واضح سقطت أسعار أسهم السيارات سقوطا مدويا ، وبيعت الملايين من الأسهم.
في صباح اليوم التالي الخميس 24 أكتوبر، بدأ انهيار 1929 الضخم، وأخذ السوق في التهاوي بلا توقف وبصورة مفزعة.
الثقة، هي كلمة السر والعامل الحاسم في هذا الأمر برمته ، فهي أهم عامل يقوم عليه أي اقتصاد، متى فقدت يبدأ الاقتصاد في الانهيار قويا كان أم ضعيفا .
يوم الاثنين 28 أكتوبر، استمر السوق في الانهيار بالرغم من كل ما جري والمحاولات اليائسة عديمة الجدوى لإنقاذ الوضع ، حتى أنه عطلت خطوط التلغراف والهاتف بين نيويورك وبقية المدن للحد من انتشار الأسعار .
هنا ولأول مرة ظهرت جلية آثار الاقتراض السهل وسياسة اشتري الآن وادفع لاحقا ، وكما ذكرنا فإن عددا كبيرا من الأسهم المشتراة كان بنقود مقترضة ، وميزة هذا الأسلوب هو ارتفاع الأسعار باستمرار، ومن ثم تحول ميكانيكية الحركة إلى الاتجاه المضاد، الانهيار الكامل، وتعاظم الخسائر.
هكذا أصبح كل هؤلاء الناس في وضع حرج هم والبنوك التي أقرضتهم ، لأنهم كانوا يدفعون نسبة قليلة من ثمن الأسهم كتأمين .
بناء عليه خافت البنوك من عدم تسديد هذه القروض ، فقامت بالتعاون مع مكاتب السمسرة بإرسال خطابات ومكالمات إلى جميع الناس تطالبهم بجلب أموال أكثر وإلا سوف يتم بيع الأسهم الخاصة بهم ، كان هذا الطلب من الصعوبة بمكان؛ لأن بعض الناس لم يكن لديهم المبلغ المطلوب واحتاج البعض الآخر إلى وقت من أجل تجميع المبلغ، لكن السماسرة كانوا صارمين للغاية ولم يكن بوسعهم الانتظار .
يوم الثلاثاء 29 أكتوبر، ازداد البيع بصورة أكثر كثافة ورعبا، وخرج الأمر عن السيطرة، وبالرغم من ذلك ظلت الحكومة ترفع شعار السوق الحر وعدم التدخل.
تأثير الدومينو
في ظل هذه الحالة من الاستهتار من قبل الحكومه، وبنهاية أول خمسة أيام منذ بدء الانهيار، قدرت الخسائر ب 25 مليار دولار، واستمر السوق في السقوط.
نتيجة لهذا، أفلس الملايين من الناس، واجتاح الانهيار جميع أرجاء أمريكا حتى الأشخاص الذين لم يمتلكوا سهما واحدا في حياتهم ، ولم يستفيدوا من ارتفاع الأسهم قط، أمسوا ضحايا الأزمة أيضا ..
وبسبب ضياع ثقة الأمريكيين في اقتصادهم المكون من آلاف البنوك في المدن الصغيرة ، التي لم تستطع أن تقنع عملائها بأن أموالهم في أمان ، بدأ تأثير الدومينو في العمل وأفلس ما يزيد عن 3000 بنك، وبهذا ضاعت مدخرات الملايين من المواطنين مما أثر على العوام بصورة خطيرة .
كان عدم وجود بنية تحتية متمثلة في منظمة لتأمين البنوك الفيدرالية لضمان تأمين إيداعات الناس وعدم وجود أي وسيلة لدعم البنوك من الأسباب التي زادت المشكلة سوءا، بهذا تحمل عامة الشعب أخطاء الصيارفة ورجال المال وفقدوا كل ما لديهم من أموال.
نتج عن هذا إفلاس جماعي للمواطنين والبنوك وفي ظل فقدان الثقة لم تستطع الشركات الاقتراض ليظلوا عائمين حتى يتمكنوا من دفع الأجور والدفع لمورديهم للحصول على خامات الإنتاج ، وفي ظل هذا عاني الاقتصاد من أزمة عامة في السيولة تسببت في إفلاس الشركات التي سرحت العمالة ، وبالطبع توقفت حركة الإنتاج والتجارة، فعم الخراب، إفلاس، فقر، وتشريد للآلاف بسبب عجزهم عن دفع إيجار منازلهم، وبدأت حقبة جديدة عرفت بالكساد الكبير الذي استمر حتى قيام الحرب العالمية الثانية .
مع انتهاء حكم الجمهوريين وفوز الديموقراطيين الساحق في انتخابات 1932 بسبب سخطهم علي سياسات الجمهوريين التي أوصلتهم الي هذا الوضع ، ومع تولي “روزفلت” رئاسة أمريكا قام بسن العديد من القوانين واتخاذ بعض الإجراءات لتنظيم النظام المالي وفرض رقابة علي القروض والبنوك والاستثمار محاولا إنهاء الأزمة .
فقام بتحرك سريع محاولا استعادة الثقة في الاقتصاد، فضمن الودائع لدى البنوك، وسن القوانين التي أرغمت البنوك على العمل تحت رقابة حكومية صارمة ، ومن ثم تم البدء في تحقيق للكشف عن أسباب الانهيار قامت به لجنة مجلس الشيوخ البنكية استمر لثلاث سنوات وتم كشف النقاب عن كل المعاملات القذرة التي قام بها الصيارفة والسماسرة.
ثم أتبع ذلك إطلاق مجلس الأوراق المالية الأمريكي وكانت مهمته تنظيف وول ستريت ، وبالرغم من ذلك استمرت حالة الكساد. بسبب عولمة الاقتصاد امتد تأثير الأزمة إلى العالم كله بنسب مختلفة ، ولكن أوروبا تأثرت وبشدة بسبب أنها كانت لا تزال تعاني من آثار الحرب العالمية الأولى ، في بريطانيا حدث انهيار في الصناعة وفقد الملايين أعمالهم .
التاريخ يعيد نفسه
تكرر الأمر ذاته في 2008 وكأن شيئا لم يحدث من قبل، ولكن هنا كانت الفقاعة بسبب العقارات والمضاربة على المنازل ، كما أن الاقتراض كان عاملا أساسيا، ولم ينتبه أحد إلى أن انهارت فقاعة المنازل.
في النهاية، يتلخص الأمر في قروض سهلة، وإغراء الناس بالثراء السريع والمضاربة المجنونة التي يدفعها الطمع ، وغياب الرقابة الحكومية بحجة حرية السوق.