من المفترض أن وفرة الموارد الطبيعية في أي دولة هي نعمة كبيرة، ولكن أحياناً تتحول تلك النعمة إلى نقمة ولعنة تصيب البلاد، فهناك حالات يمكن أن تشكل هذه الموارد عبئاً على الاقتصاد.
لماذا؟ هذا ما سنجيب عليه من خلال هذا التقرير.
تصير وفرة الموارد الطبيعية نعمة لأن اكتشاف مورد طبيعي جديد (أو زيادة سعر مورد محلي في السوق الدولي) يؤدي إلى زيادة في الدخل القومي، وبالتالي في إمكانيات الاستهلاك في الاقتصاد، ونقمة لأنها يمكن أن تؤدي إلى ما يسمى بالمرض الهولندي الذي يمكن أن يكون له آثار اقتصادية كبيرة على المديين الطويل والقصير لتكون بذلك هذه الموارد عقبة في طريق التنمية.
أعراض المرض الهولندي
يعد المرض الهولندي ظاهرة خاصة تصيب العديد من البلدان نتيجة توفر الثروات الطبيعية، حيث أن اكتشاف ثروات طبيعية بكمية كبيرة يزيد الطلب على العملة، نظراً لأن الأفراد يرغبون في شراء العملة المحلية واستعمالها في شراء تلك الثروات أو الاستثمار فيها، مما يؤدي إلى ارتفاع سعر صرف العملة المحلية في أسواق الصرف العالمية. ارتفاع سعر الصرف هذا يؤثر سلباً على تنافسية بقية القطاعات الاقتصادية المصدرة، الأمر الذي يضطر الشركات العاملة في هذه القطاعات إلى تخفيض الإنتاج أو الخروج كلياً من السوق.
فعلى سبيل المثال: إذا كانت شركة مصدرة تحقق أرباح قدرها مليون دولار. فقيمة هذه الأرباح بالعملة المحلية تقل إذا ارتفعت قيمة العملة، حيث تكلفة هذه الشركة ظلت ثابثة، لكن ايراداتها من العملة المحلية قلت بسبب ارتفاع قيمة العملة. ولكي تحافظ هذه الشركات على نفس هامش الربح يجب عليها أن ترفع أسعار السلع والخدمات التي تبيعها، مما يؤدي إلى انخفاض تنافسيتها مقارنة بالشركات المصدرة القادمة من دول أخرى لم تتغير قيمة عملتها.
نتيجة لهذا الأمر، وفي أسوأ الحالات، يصبح اقتصاد الدولة مكون من قطاع اقتصادي مزدهر – القطاع النفطي في حال كانت الموارد التي تم اكتشافها نفطية – وقطاعات أخرى راكدة لا تستطيع المنافسة بسبب ارتفاع سعر الصرف. الأمر الذي سيؤدي بالتأكيد إلى زيادة معدلات البطالة وتراجع نمو الاقتصاد ككل (1).
وقد نشأت نظرية المرض الهولندي بالأساس بعد اكتشاف هولندا مصادر للنفط و الغاز في الفترة بين 1900-1950، مما أتاح الفرصة للمجتمع الهولندي بأن يحيا فترة من الرخاء والترف سرعان ما انتهت نتيجة لاستنزاف آبار الغاز والنفط، لتسمى هذه الظاهرة بالمرض الهولندي، مرض لم يشف الشعب الهولندي منه إلا بعد نضوب آبار البترول (2).
كيف ينتشر المرض الهولندي في جسد الاقتصاد؟
كما أن لكل مرض أعراض تصاحبه، فهناك طرق محددة ينتشر بها المرض في جسد المريض. معرفة هذه الطرق ضرورية لفهم أضرار المرض وطرق علاجه. اقتصاد الدولة يصاب بالمرض الهولندي نتيجة مؤثرين سنحاول فهمهما باعتبار أنه قد تم مؤخراً اكتشاف آبار نفطية في اقتصاد ما.
1. أثر انتقال الثروات (The Resource Movement Effect)
اكتشاف النفط في دولة ما – أو ارتفاع اسعاره- يؤدي إلى زيادة الطلب على العمالة في القطاع النفطي، وبالتالي ارتفاع معدلات الأجور فيه. هذا سيؤدي – بشكل عام – إلى تحول العمالة من طلب الوظائف في القطاعات الأخرى إلى طلب الوظائف في القطاع النفطي، مما سيؤدي إلى انخفاض العرض في سوق العمل في هذه القطاعات. انخفاض العرض على العمالة في القطاعات غير النفطية مع بقاء الطلب ثابتاً سيؤدي إلى ارتفاع الأجور في هذه القطاعات، مما يرفع تكلفة العمل فيها ويؤدي إلى إنخفاض الربح الذي يجنيه المستثمرون.
إضافة إلى ذلك، فاكتشاف النفط يؤدي إلى ارتفاع تكلفة الفرصة البديلة لقرار الاستثمار في قطاع غير نفطي: لماذا استثمر في قطاع آخر والقطاع النفطي منتعش ويمكنني تحقيق ربح أكبر فيه؟
2. أثر الإنفاق (The Spending Effect)
إن ازدياد عوائد القطاع النفطي المزدهر يؤدي لزيادة دخول للمستفيدين من عوائد ذلك القطاع مع ثبات الأسعار في القطاعات الأخرى. زيادة الدخول هذه، يتم توجيه جزء منها نحو الإنفاق على قطاع السلع والخدمات المحلية سواء من خلال الأفراد أو من خلال الضرائب التي توجهها الحكومة إلى سوق السلع. الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الطلب على السلع والخدمات وبسبب عدم قدرة القطاعات غير النفطية مجاراة هذه الزيادة المفرطة. الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم (الطلب أكبر من العرض = التضخم) ارتفاع الأسعار هذا يجعل الأسر تتجه نحو شراء السلع التجارية المستوردة نظراً لانخفاض اسعارها مقارنة بالسلع المحلية، مما يضعف القطاعات غير النفطية أكثر (2).
الجزائر و المرض الهولندي: كيف وضعت الجزائر كل البيض في سلة واحدة
تعد الجزائر ثالث أكبر بلد إفريقي منتج للنفط، كما تحتل المركز السادس عشر كأكبر منتج للنفط في العالم؛ حيث بلغت احتياطياتها نفط حوالي 12.200 مليار برميل، وتعد الجزائر أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم، وسادس أكبر دولة منتجة للغاز الطبيعي.
وكما هو الحال مع غالبية الدول المصدرة للنفط، فقد أصبحت الجزائر معتمدة على النفط كمصدر رئيسي للصادرات والإيرادات الحكومية، حيث يتسم الاقتصاد الجزائري بتبعيته الكبيرة لقطاع المحروقات كمحرك رئيسي للنشاط الاقتصادي، الأمر الذي كان على حساب القطاعات الأخرى الأقل نمواً وتطوراً. نتيجة لذلك، فالاقتصاد الجزائري اقتصاد يتمحور بشكل كلي حول النفط مما يجعله فاقداً لأي شكل من التنوع الذي يجعله اقتصاداً صلباً غير قابل للتأثر بتقلبات سوق النفط العالمي.
فمنذ عام 1973 وقطاع المحروقات يفرض هيمنته الكاملة على الاقتصاد الجزائري ليستحوذ على مجمل الاستثمارات الأجنبية والوطنية. وقد أثبتت الأزمة الاقتصادية في عام 1983 هشاشة الاقتصاد الجزائري واعتماده المفرط على قطاع المحروقات (3).
كما هو واضح من الشكل أعلاه، فقد شكلت زيادة عائد القطاع النفطي مع الوقت حافزاً للتركيز عليه وإهمال باقي القطاعات، مما يجسد لنا أهمية التركيز على النفط والخطر الناتج عن ذلك إذا أصيب القطاع بأزمة ما.
وتشكل تلك التبعية لقطاع المحروقات وعدم تنوع القطاع الانتاجي أعراض المرض الذي نحن بصدد دراسته. أعراض تتجلى في كون طريقة استغلال الموارد الطبيعية في الجزائر قد أدت إلى تدني نمو ومردود باقي القطاعات المنتجة لاسيما الصناعية منها. وفي واقع الأمر، ولأكثر من أربعة عقود، لم يتم إحراز تقدم كبير في الحد من هذه التبعية على المحروقات. فقد ظل الاقتصاد الجزائري، منذ سبعينيات القرن الماضي معتمداً في المقام الأول على انتاج وتصدير النفط. وهكذا، أصبح الاقتصاد الجزائري عرضة لتقلبات كبيرة في أسعار وعائدات النفط، والآثار السلبية للعنة الموارد. (4)
الأمر الذي حدث ابتداءًا من النصف الثاني من عام 2014 حيث انخفضت أسعار النفط، مما خلف آثاراً بارزة على الجانب الاقتصادي. حيث سجلت الجزائر خلال الأشهر التسعة الأولى من سنة 2014 فائضاً تجارياً قدره نحو 5.39 مليار دولار مقابل 6.6 مليار دولار مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية مسجلاً بذلك تراجع قدره 18%. وذلك بسبب انخفاض قيمة الصادرات الجزائرية بنحو 800 مليون دولار مقارنة بـالسنة السابقة (المركز الوطني للإعلام والإحصاء التابع للجمارك الجزائرية).
و انتقل هذا التأثير في الاقتصاد الجزائري المعتمد كلياً على النفط إلى قطاع الصادرات بأكمله. والأدهى والأمر، هو تأثر الموازنة العامة بشكل كبير، حيث أن انخفاض الصادرات يعني انخفاض العائدات الضريبية مما يزيد من عجز الموازنة ويحد من قدرة الدولة على الانفاق.
هكذا، يثبت لنا الواقع بشكل جلي إصابة الجزائر بهذا المرض العضال الذي يهوي بمناعة الاقتصاد إلى الحضيض ويجعله تحت رحمة تقلبات الأسواق العالمية.
الدواء المر: طريق الاقتصاد الجزائري نحو الشفاء من المرض الهولندي
بدأت الجزائر منذ 2001 في تطبيق حزمة من البرامج التنموية الضخمة الهادفة إلى إنعاش النمو الاقتصادي، والتغلب على العوائق، والنقص المسجل في الهياكل القاعدية وبيئة الاستثمار، وزيادة التكامل بين قطاعات الاقتصاد المختلفة، وإيجاد المحيط الملائم لاندماج اقتصادها في الاقتصاد العالمي، هذه المشاريع تجسدت في ثلاث برامج اقتصادية خصصت لها موارد مالية
1. برنامج دعم الإنعاش الاقتصادي (2001-2004)
بفعل تحسن ايرادات المحروقات في هذه الفترة اتجهت الجزائر إلى تحضير وضع اقتصادي ملائم لتنمية الاقتصاد الجزائري، فمتوسط نسبة نمو اقتصادي يعادل 3.2 % خلال أواخر التسعينات لم يكن كافياً لتلبية حاجات الجزائريين المستعجلة، لاسيما في مجال الشغل والسكن والمرافق الاجتماعية وظروف المعيشة. لذا، فقد تم وضع برنامج من أجل إطلاق النمو والحفاظ عليه يتضمن تحقيق نمو للناتج الداخلي الحقيقي الخام لا يقل عن 5% سنوياً وتوفير ما يقارب 850 ألف منصب شغل خلال الفترة 2001- 2004.
وقد ارتكز برنامج الانعاش الاقتصادي على المحاور الآتية:
- إعادة تنشيط الجهاز الإنتاجي الذي يعد أساس إنشاء الثروات.
- تطهير محيط المؤسسة الحكومية وإعادة تنشيطها.
- سياسة للنفقات العمومية تتيح تحسين القدرة الشرائية.
هدف البرنامج إلى دعم الاستثمارات الفلاحية ومؤسسات الإنتاج الصغيرة والمتوسطة لاسيما المحلية منها. إضافة إلى تنمية البنية التحتية التي تسمح بإعادة انطلاق النشاطات الاقتصادية وتحسين تغطية حاجات السكان في مجال تنمية الموارد البشرية. من أجل تحقيق ذلك خصصت الحكومة الجزائرية موارد مالية كبيرة من أجل دعم انجاز 160632 مشروع، لينتهي البرنامج بإنجاز ثلاث أرباع المشاريع فقط بعد استهلاك كل الموارد المخصصة له تقريباً.
2. البرنامج التكميلي لدعم النمو الاقتصادي (2005 – 2009)
بسبب التحسن المستمر للاقتصاد الجزائري نتيجة لتطبيق برنامج الانعاش الاقتصادي، وبفضل ارتفاع أسعار البترول في السوق العالمي إلى نحو 38.5 دولار للبرميل وتحسن الوضعية المالية لخزينة الدولة، وما نتج عنها من زيادة تراكم احتياطات الصرف إلى ما يقارب 43.1 مليار دولار سنة 2004، فقد أقرت الحكومة برنامج تكميلي لتحسين المستوى المعيشي للأفراد من خلال برامج تحديث وتوسيع الخدمات العامة التي تمس بصورة مباشرة الفئات الفقيرة ومحدودة الدخل أو المعدومة، وذلك من أجل إشراكهم في الإنتاج وتحسين إنتاجيتهم بتطوير رأسمالهم البشري بمشاريع الصحة والتكوين والتعليم والتدريب والتمكن من استخدام التكنولوجيات الحديثة، حتى لا تبقى تلك الفئات عائقاً أمام الطريق الطويل للنمو.
وقد تم رصد مبلغ مالي يقدر بنحو 114 مليار دولار كقيمة أولية، وذلك من أجل مواصلة وتيرة البرمج والمشاريع التي سبق إقرارها في البرنامج السابق. لكن مع ذلك، وبسبب هشاشة الاقتصاد الجزائري فقد أدت الأزمة العالمية إلى انخفاض الطلب العالمي على المحروقات. وقد اتسم النمو الاقتصادي خلال فترة البرنامج بالانخفاض نتيجة تراجع أسعار المحروقات بسبب نقص الطلب العالمي عليها جراء الأزمة المالية التي شهدها الاقتصاد العالمي.
3. برنامج توطيد النمو الاقتصادي (2010 – 2014)
خصصت الجزائر لهذا للبرنامج نحو 286 مليار دولار، حيث هدف البرنامج إلى القضاء على البطالة من خلال استحداث 3 مليون وظيفة، وإلى دعم التنمية البشرية من خلال تزويد الاقتصاد بالموارد البشرية المؤهلة، تحسين المستوى الصحي للسكان باعطاء دفعة قوية للقطاع الصحي، ومواصلة جهود تحسين جودة المياه الصالحة للشرب واستكمال المشاريع الجارية التي لم يكملها البرنامج السابق.
هل نجحت الجزائر في التعافي من المرض الهولندي؟
تسببت جهود الاستثمار العام التي أطلقتها الجزائر من الحفاظ على مستويات معقولة من النمو الاقتصادي منذ عام 2000، وقد انخفض معدل البطالة بنسبة 20 %، من 29.2٪ في عام 2001 إلى 11.7% سنة 2017.
رغم تخصيص موارد مالية هائلة لتنمية مختلف قطاعات الاقتصاد الجزائري منذ مطلع الألفية، فلا يزال الاقتصاد الجزائري ضعيف التنوع، فالقطاع النفطي لا يزال طاغياً بشدة مقارنة بقطاعات غير نفطية ضعيفة وغير منتجة (7).
هذا ويعد دعم القطاعات غير النفطية ضرورة حتمية من أجل خلق اقتصاد صلب وتنافسي، ومن أجل الاندماج الفعال في الاقتصاد العالمي دون الاعتماد على قطاع وحيد. ويتمثل التحدي الاول في ضرورة تنويع الاقتصاد الوطني و توجيهه نحو القطاعات كثيفة العمالة التي تستطيع المساهمة في خفض معدلات البطالة.
فالنمو الاقتصادي ينبغي أن يعتمد على عدة قطاعات قوية، فاعتماد الاقتصاد على مورد واحد كالنفط يجعله معرضاً للتقلبات الاقتصادية الداخلية (مثل زيادة السكان مع انخفاض أو ثبات الطاقة الإنتاجية مما يؤدي لارتفاع الأسعار) أو التقلبات الخارجية (مثل زيادة الانتاج العالمي من ذلك المورد وانخفاض أسعاره) (8). فتنوع القطاعات الانتاجية في الاقتصاد هو أمر ضروري تسعى لتحقيقه أغلب الدول النفطية لتقوية مناعة اقتصاداتها ضد تقلبات الأسواق العالمية ولاعطائه المرونة الكافية للتأقلم مع هذه التقلبات (9).