تقارير

قوة الداخل | هل يمكن أن يحل الادخار المحليّ محلّ الاستثمار الأجنبي؟

يزداد رأس المال بالادِّخار ويتناقص بالهدر وسوء الإدارة، والصناعة التي غدت تحقق مزيدًا من الادِّخار، ماذا كان بإمكانها أن تعطي دون ادِّخار؟ 

ثروة الأمم – آدم سميث

     

      يتمثل الادخار المحليّ في ذلك الجزء من الدخل القومي الذي يُستثنى من الإنفاق الاستهلاكي خلال فترة زمنية معينة، وقد شهدت معدلات الادِّخار في مصر تراجُعًا خلال السنوات الماضية، لتسجل نحو  5.8% من الناتج المحليّ الإجمالي خلال العام المالي 15/2016، وذلك وفقًا لبيانات التقرير الشهري لوزارة المالية في يوليو2017 (مقابل 8% في العام المالي 11/2012). فيما واصلت المدّخرات المحليّة تراجعها خلال العام الجاري (2017)، لتسجل نحو  2.7% من الناتج المحليّ الإجمالي خلال الربع الأول. الأمر الذي أدَّى إلى اتساع فجوة الموارد (الفرق بين حجم الادِّخار المحليّ والاستثمار المحليّ) لتصل إلى 14.4% من الناتج المحليّ الإجمالي خلال نفس الفترة (مقابل 11% العام السابق).

سبل تقليل الفجوة

      تستلزم فجوة الموارد زيادة الاقتراض من الخارج بحثًا عن التمويل منخفض التكلفة؛ لذلك سعت مصر للحصول على قرضٍ من صندوق النقد الدولي تبلغ قيمته الإجمالية 12 مليار دولار، ضمن برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تبنته مصر في نوفمبر الماضي. بالإضافة إلى اجتذاب استثمارات أجنبية مباشرة جديدة قُدِّرت بنحو 1.2 مليار دولار خلال الـ9 أشهر المنتهية في يونيو الماضي.

      بالإضافة إلى ضرورة تعزيز مساهمة كل من الاستثمار بنوعيه والصادرات في النمو الاقتصادي، وهذا ما تستهدفهُ خطة التنمية المستدامة متوسطة الأجل (2017-2020)، بحيث ترتفع مساهمة الاستثمار بشكل تدريجي لتصل إلى نحو 1.2% خلال العام المالي 17/2018، ثم إلى 1.4% في عام 19/2020، في ضوء الزيادة المتوقعة في حجم الاستثمارات المحليّة والأجنبية على حدٍ سواء، والتي ستصاحب التحسن المستهدَف في بيئة الأعمال كأحد مرتكزات برنامج الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي. وأن ترتفع مساهمة الصادرات في النمو تدريجيًا لتصل إلى 0.4% خلال العام المالي 17/2018 وإلى نحو 1.2% خلال العام المالي 19/2020‏. وعلى الجانب الآخر،  فإنه من المستهدف أيضًا خفض مساهمة الاستهلاك في النمو الاقتصادي لتبلغ 3.1% خلال العام المالي 17/2018 وإلى نحو 3% خلال العام المالي 19/2020‏.

تكوين الادِّخار المحليّ

      تنقسم المدّخرات المحليّة بين الادِّخار الحكوميّ الذي يتمثل في رصيد الموازنة العامة للدولة (الفائض أو العجز)، والادِّخار غير الحكوميّ والذي يتعلق بادِّخار القطاع العائليّ والقطاع الماليّ والقطاع الخاص. ويمكن الجزم بأن تراجع معدلات الادِّخار وعدم ملائمتها لمعدلات الاستثمار المحليّ ناتج عن العجز في الموازنة العامة للدولة، والذي سجل نحو 319.5 مليار جنيه في موازنة العام المالي 16/2017، بما يمثل 9.8% من الناتج المحليّ الإجماليّ. خاصة وأن مدّخرات القطاع العائلي، باعتبارها من أهم مصادر الادِّخار في مصر، قد شهدت ارتفاعات متتالية منذ بدء برنامج الإصلاح الاقتصادي متأثرة بالارتفاعات المتتالية في أسعار الفائدة على الأوعية الادِّخارية بالبنوك، باعتبارها حافزًا أساسيًا يدفعهم للمفاضلة لاختيار أكثر هذه الأوعية عائدًا.

  حيث قام البنك المركزي المصري في نوفمبر 2016 برفع أسعار الفائدة بواقع 300 نقطة أساس (ما يعادل 3%)، لتسجل 14.75% على الإيداع. وكان لهذا الرفع أثرًا واضحًا على ادِّخار الأفراد، حيث حققت مدخرات الأفراد مستويات قياسية في نوفمبر 2016، لترتفع بنحو 286.7 مليار جنيه، لتسجل 1.660 تريليون جنيه، مقابل 1.374 تريليون جنيه في الشهر السابق له، بنسبة نمو وصلت إلى 20% خلال شهر.

واستمرَّ ادِّخار الأفراد في النمو خلال الأشهر التالية مع حدوث زيادات متكررة في أسعار الفائدة، ليستحوذ القطاع العائلي على ما يزيد عن 64.2% من إجمالي مدّخرات القطاع المصرفيّ وفقًا لبيانات البنك المركزي في يوليو الماضي. وبالتالي زادت قدرة القطاع المصرفي على اجتذاب أموال المدخرين، والتي تترجَم إما في شكل تمويل لمشروعات استثمارية سواء قائمة أو ناشئة، أو بالمساهمة في تمويل عجز الموازنة العامة للدولة بشراء أدوات الدين الحكومية من قِبل البنوك، وفي كلتا الحالتين هناك تأثير إيجابي على التنمية الاقتصادية.

أسباب الحاجة إلى الاستثمار الأجنبي

      يمكن حصر الأسباب الأساسية لحدوث الفجوة الادِّخارية وفقًا لخطة التنمية المستدامة متوسطة الأجل (2017-2020)، فيما يلي:

  • انخفاض متوسط دخل الفرد ليبلغ 3460 دولار سنويًا في عام 2016، مما يقلل من قدرة الأفراد على الادِّخار.
  • ارتفاع معدل التضخم إلى نحو 31.6% بنهاية سبتمبر الماضي، مما يؤدي إلى تراجع قيمة المدّخرات المحليّة.
  • زيادة الإقراض الاستهلاكي من القطاع المصرفي، مما يعكس السيولة المتاحة للبنوك لتمويل الاستثمار.
  • عجز الموازنة العامة للدولة، الذي سجل نحو 319.5 مليار جنيه في موازنة العام المالي 16/2017 كما ذكرنا، بما يزيد من حجم الفجوة التمويلية.

      الأمر الذي يعكس عدم كفاية حجم الادِّخار المحليّ لتمويل الاستثمارات المستهدَف في خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية 16/2017، مما يستلزم اتخاذ بعض الإجراءات اللازمة لتحفيز الادخار المحلي خاصة في ظل التضخم المرتفع وضعف مصادر النقد الأجنبي نتيجة تدهور المصادر التقليدية له، مثل:

تراجع إيرادات السياحة بمعدل 12.8% لتقتصر على نحو 2.8 مليار دولار خلال الفترة يوليو/مارس 16/2017 (مقابل نحو 3.3 مليار دولار العام السابق) وتراجع متحصلات رسوم المرور بقناة السويس خلال نفس الفترة بمعدل 4.2% لتسجل نحو 3.7 مليار دولار (مقابل نحو 3.9 مليار دولار العام السابق .

      هنا تبرز الحاجة إلى الاستثمار الأجنبي المباشر، حيث تتنافس الدول النامية -ومنها مصر- في جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة, وذلك بسبب أهميتها في تحقيق معدلات النمو المستهدَفة من خلال دورها الإيجابي المتمثل في المساهمة في سد فجوة الادِّخار/ الاستثمار في الدول المضيفة.  

أهمية الاستثمار الأجنبي في المراحل الأولى للتنمية

      يُعدُّ اجتذاب الاستثمارات الأجنبية أمرًا طبيعيًا في مراحل التنمية الأولى والتصنيع، إلا أنه يجب على الدولة المضيفة أن توطد الارتباط بين الاستثمارات الأجنبية وزيادة قدرتها على التصدير حتى يمكنها الحفاظ على استمرار تدفق الأموال من الخارج، فالاستثمارات الأجنبية سواء أخذت شكل قروض أو استثمارات مباشرة أو مالية، فإنها تتطلب إمكانية الخروج (exit)، فالقروض لا بد أن تُسدَد، والاستثمارات المالية غير المباشرة لا بد أن تكون قادرة على الحركة واقتناص الفرص في الأسواق الأخرى. وبالمثل فإن الاستثمارات المباشرة لا بد أن تكون قادرة على تحويل الأرباح ورأس المال إذا لزم الأمر؛ لذلك فإنه إن لم يصاحب زيادة الاستثمارات الأجنبية زيادة مقابلة في القدرة على زيادة الصادرات فإن هذه الاستثمارات الأجنبية لا بد وأن تصل إلى طريق مسدود.

استخدام مزدوج لعوائد الصادرات:

      إذا كان نمو صناعات التصدير وتطويرها شرطًا لازمًا لاستمرار تدفق الاستثمارات الأجنبية كقوة دافعة للنمو الاقتصادي، فيجب على الدولة المضيفة في الوقت نفسه استخدام عوائد الصادرات لزيادة حجم المدّخرات المحليّة، بما يعمل على تقليل الفجوة التمويلية بين الاستثمار والادِّخار المحليّين، وذلك اعتمادًا على العلاقة بين حجم قطاع التصدير وحجم المدخرات المحليّة؛ لأن تنفيذ الاستثمارات الأجنبية على النحو الذي يدعم قطاع التصدير يؤدي إلى زيادة التكوين الرأسمالي محليّا، ويُجنب هذه الدول الاعتماد على المديونية الخارجية ويساعدها على توفير العملات الأجنبية.

سُبل إحلال الادخار المحلي بدل الاستثمار الأجنبي

وكي يصبح الادِّخار المحليّ بديلًا عن الاستثمار الأجنبي يجب أن ترتكز جملة السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية على تطبيق مجموعة من الإجراءات التي تستهدف رفع معدلات الادِّخار المحليّ، بحيث يمكن الاستعاضة به عن الاستثمار الأجنبي في تحقيق التنمية بالبلاد. ومن هذه الإجراءات، ما يلي:

1- رفع إنتاجية القطاعات الإنتاجية السلعية

      بتوجيه نسبة أعلى من الاستثمارات لقطاعي الزراعة والصناعة، بحيث يتم استهداف تحقيق الكفاية في الاستهلاك المحليّ على الأقل في الوقت الراهن، مما يُترجَم إلى ثبات نسبىٍّ في أسعار السلع الغذائية وخفض الواردات منها، وهو ما يؤدى في النهاية إلى تخفيض عجز ميزان المدفوعات.

2- زيادة قدرة الجهاز الإنتاجي المحليّ على توفير السلع التصديرية

      وذلك بعد توفير حاجات الاستهلاك المحليّ منها، بحيث يتم اتباع سياسة ادِّخارية رشيدة تركز على زيادة الادِّخار المحليّ وخفض الاعتماد على المدخرات الأجنبية (الاستثمار الأجنبي أو الاقتراض من الخارج).

3- استخدام الميزانية العامة للدولة كأداة رئيسية لزيادة معدلات الادِّخار المحليّ

      ويتحقق ذلك من خلال ترشيد الإنفاق العام غير الضروري سواء كان مدنيًا أو عسكريًا، ومنع الإسراف في السلع الترفيهية والكمالية، والاحتفاظ بالدعم على السلع الضرورية. وكذلك السعي لتحقيق العدالة في توزيع الأعباء الضريبية، باعتبار الضرائب تلعب دورًا حاسمًا في ترشيد الإنفاق العام ورفع معدلات الادِّخار العام (الحصيلة المالية من الضرائب).

4- القضاء على أسباب التضخم والارتفاع في الأسعار

      بتنسيق وتضافر جهود كل من السياسات الاقتصادية (الاهتمام بقطاعات الإنتاج السلعي الزراعي والصناعي لزيادة إنتاجيتها)، والمالية (زيادة كفاءة النظام الضريبي ليتلاءم مع التغيرات في توزيع الدخل)، والنقدية (زيادة أسعار الفائدة ومنع الائتمان إلا في ضوء الحاجات الحقيقية واجبة الإشباع في الاقتصاد القومي).

5- إعداد دراسات جدوى فنية واقتصادية للمشروعات الاستثمارية

      وذلك بالنسبة للمشروعات الاستثمارية التي تدخل في إطار خطط التنمية، وأن تكون مُعلنة لأصحاب المدّخرات من المصريين بالداخل والخارج، كدعوة للمساهمة في تنمية اقتصاد وطنهم وزيادة دخولهم في نفس الوقت بدلًا من توجيهها للاستهلاك أو توظيفها في شكل ودائع مصرفية تضيف إلى الضغوط التضخمية.

6- تحقيق مزيد من عدم الاعتماد على الإصدار النقدي كوسيلة للتمويل بالعجز

      فبرغم زيادة الودائع بالعملة المحليّة لدى الجهاز المصرفي فإن ارتفاع معدلات الإصدار النقدي يشير إلى ضعف تعبئة المدّخرات المحليّة وتنميتها للوفاء باحتياجات التمويل.

7- العمل على تعبئة المدّخرات المحليّة في الداخل والخارج

  •       في الداخل من خلال خلق أوعية ادَّخارية لجذب مدّخرات الأفراد، تنمية الوعي المصرفي لدى الجمهور بأهمية الادِّخار.. إلخ.
  •       في الخارج من خلال إصدار سندات ذات عائد مرن ومتميز يتماشى مع تقلبات أسعار الفائدة في أسواق المال العالمية؛ ال وذلك لجذب المدّخرات الموجودة في الخارج.

خديجة مصطفى

باحثة ماجستير ، قسم الاقتصاد ، جامعة الأزهر .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى