الجنيه المصري : مرآة مصر الحقيقية
الجنيه هو حكاية مصر؛ لذا لن أحكي كثيرًا عن معاناة أهلها، بل سأترك الساحة لبطل الليلة، يروي لكم من بين زواياه ،تاريخ مصر في شتى العصور؛ عصور الازدهار والاضطراب على السواء، سنشاهد بعينيه جميعًا مصر المملكة، ومصر السلطنة، ومصر الجمهورية، ومصر تحت الانتداب، ومصر تحت الوصاية والاحتلال، ومصر المنتصرة..
- يمكننا بدء رحلتنا هذه بالسؤال التالي: متى ظهرت الحاجة لاستخدام العملة المصرية؟!
قديمًا، قبل تطور علم الاقتصاد إلى ما هو عليه الآن، كان يتم التبادل ببساطة، سلعة بسلعة أخرى على حسب الحاجة؛ فيما يُعرف بنظام بالمقايضة، ولم تُعرف العملات النقدية حتى مع تطور نواحي الحياة في مصر وتطرق المصري القديم إلى العديد من العلوم لكنه ظل يتعامل تجاريا بنظام المقايضة، وظهر عدم تأثرهم بوجود عملة من عدمه في مدى اهتمامهم بالحياة الآخرة أكثر من اهتمامهم بالحياة الدنيا، وظهر ذلك جليًّا في إنجازاتهم، فكانت أغلب مبانيهم الباقية لوقتنا هذا إما معابد أو مقابر أو أماكن جنائزية.
إلا أن نظام المقايضة أصبح عاجزًا عن مجاراة التطور الحضاري الذي ساد المجتمعات، فلم تُعدُّ المقايضة الصورة المثلى للتبادل وإتمام المعاملات الاقتصادية، حيث زادت حاجات الإنسان وأصبح يتنقل من مكان لآخر. من هنا بدأت حاجتهم لوجود قاعدة ثابتة للتبادل من خلالها وهنا استقروا على قاعدة الذهب حيث تُحدد كل دولة قيمة الوحدة الواحدة من عملتها الوطنية بوزن محددٍ من الذهب.
بداية عصر العملات الذهبية والفضية
لماذا سُمي “الجنيه” بهذا الاسم؟
لفظ “الجنيه” -في الأصل- غير عربي، بدأت طباعة أول عملة معدنية ذهبية عام 1836 في عصر محمد علي، الذي كان يسك الجنيه من الذهب المستورد من غينيا (بالفرنسية: Guinée)، لذا سُمي الجنيه بهذا الاسم تبعًا للاسم الفرنسي لغينيا وأيضًا لبريقه الذي يُجنُ العقل به، و يشير رمز الأيزو 4217 للجنيه المصري ب (EGP ) أي (Egyptian Guinee pound) والأيزو هو معيار دولي لتحديد أسماء العملات التي حددتها المنظمة الدولية للمعايير، أيزو 4217 هو قائمة رموز معمول بها في القطاع المصرفي وقطاع الأعمال في جميع أنحاء العالم لتحديد مختلف العملات.
فمنذ بداية تداول العملات الذهبية والفضية في مصر وحتى عام 1834، لم يكن هناك وحدة نقدية محددة تمثل أساسًا للنظام النقدي في مصر، لكن بحلول عام 1834 صدر مرسوم خديوي بشأن مشروع قانون برلماني لإصدار عملة مصرية جديدة تستند إلى نظام المعدنين -الذهب والفضة-ليحل محل العملة الرئيسية المتداولة آنذاك وهو القرش؛ وبموجب هذا المرسوم أصبح سك النقود في شكل ريالات من الذهب والفضة -حيث كان الريال يمثل خُمس جنيه- وفى عام 1836 تم سكِّ أول جنيه ذهبي مصري في عهد محمد علي بإنجلترا.
بحلول عام 1898أصدر الخديوي عباس حلمي الثاني فرمانًا بإنشاء شركة مساهمة مصرية باسم “البنك الأهلي المصري”، وأوكل تلك المهمة إلى رافائيل سوارس ب ومنحه امتياز إصدار أوراق النقد المصري لمدة 50 عامًا، ليصبح البنك الأهلي هو البنك المركزي للحكومة المصرية. والذي أصدر من خلاله أول ورقة نقدية بقيمة جنيه مصري فيه بتاريخ 3 أبريل عام 1899.
ومع انخفاض مخزون الذهب في الخزينة المصرية والتدهور الاقتصادي الذي عرفته مصر حينها؛ أُصدر مرسومًا يمنع استخدام المسكوكات الذهبية واستبدالها بالعملات الورقية فقط وذلك في الثاني من أغسطس سنة 1914وأصبح النظام الاقتصادي قائم بالكامل على العملات الورقيةـ وألغيت الجملة التي كتبت على آلاف الجنيهات الورقية وهي: “أتعهد بأن أدفع عند الطلب مبلغ جنيه واحد مصري لحامل هذا السند، إيذانًا بتحول الجنيه من مجرد سند لسحب الذهب إلى عملة مستقلة بقيمتها و تُصرف مباشرة لأداء حاجه حاملها.
في عام 1961 أُسس البنك المركزي المصري ككيان مستقل وبنك رسمي للحكومة المصرية، وأسندت إليه عملية إصدار العملات.
بحلول عام 1952 عقب ثورة الضباط الأحرار انخفضت قيمة الجنيه أمام الدولار بنسبة كبيرة مقارنة بعصر الملك فؤاد والملك فاروق فوصل إلى 2.5$ ، بسبب تراجع مصر صناعيًا إبان فترة رئاسة عبد الناصر، لأن الاقتصاد المصري كان مرتبطًا بالمصالح الأجنبية عن طريق البنوك وشركات التأمين والاستيراد والتصدير، وكان الأجانب يسيطرون على العديد من مرافق الدولة الاقتصادية؛ لذا قام عبد الناصر بتبني توجهًا جديدًا للدولة من أجل السيطرة على مصادر الإنتاج ووسائله من خلال تأميم البنوك الخاصة والأجنبية العاملة في مصر، وتأميم الشركات والمصنع، كما قام بإنشاء العديد من المشروعات الصناعية الضخة.
رحلة الجنيه الورقي
منذ ظهوره لأول مرة عام 1899 مرَّ الجنيه بعدة تغيرات شكلية وقيمية، منها:
الجنيه الجملين
ويعتبر أول جنيه مصري أصدره البنك الأهلي عام 1899 في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، ويعتبر أول عملة ورقية تُطبع على مستوى الشرق الأوسط، وكان يُسمى حينها ب”الجنيه الجملين” نظرًا لوجود رسم لجملين على الورقة ترمز إلى طبيعة البيئة المصرية آنذاك.
طبع منه عدد قليل جدًا، ويوجد الآن منه حوالي 25 نسخة أصلية فقط في مصر.
الجنيه المعبد
جُدد شكل الجنيه في عام 1914، وسُمي بـ “الجنيه المعبد” نظرًا لوجود رسم بوابة معبد قنصوه، شهد “جنيه المعبد” في ست سنوات من 1914 إلى 1920 عصري الخديوي والسلطان معًا؛ الخديوي عباس حلمي الذي عزلته إنجلترا وعينت بدلًا منه السلطان حسين كامل في 1914 عقب فرض الحماية الإنجليزية على مصر بسبب تبنيها موقف ألمانيا في الحرب العالمية الأولى
الجنيه الجمل
عُرف هذا الإصدار باسم “الجنيه الجمل” لوجود رسم لجمل واحد فقط على الورقة، تزامن إصدار هذا الجنيه مع أزهى عصور مصر الاقتصادية؛ عصر الملك فؤاد، لم يستمر وجود هذا الجنيه سوى ثلاثة أشهر من 1\6\1924 حتى 20\9\1924 لذا يُعد من أندر العملات الورقية الآن، يُذكر أن سعر صرف الجنيه آنذاك هو خمسة دولارات..
أول جنيه باللغة العربية
بحلول عام 1950 وفي عهد الملك فاروق تمت طباعة أول عملة نُقش عليها صورة شخصية فيما ظلت العلامة المائية لأبي الهول حاضرة، ورغم كون محافظ البنك المصري إنجليزيًا آنذاك؛ تمت طباعة العملة المصرية باللغة العربية لأول مرة، كانت هذه بداية تمصير العملات المصرية التي توسعت بشكل كامل عام 1952 في عهد أول محافظ مصري للبنك المركزي؛ أحمد زكي سعد، بعدها تم تعريب كل العملات المصرية..
جنيه السادات
كان هذا الإصدار من الإصدارات ذات الرونق الخاص، حيث طُبع في عهد الرئيس السادات من عام 1968 حتى عام 1978 ونُقشت عليه صورة مسجد ابن طولون، كان سعر الصرف آنذاك 1.7 دولارًا للجنيه الواحد.
الإصدار العاشر
أكثر الإصدارات تداولًا، حيث استمر منذ تولي محمد حسني مبارك للرئاسة وحتى عام 2005 عندما ظهر الجنيه المعدني بدلًا منه لفترة، ثم أعيد الجنيه الورقي للتداول عام 2016..
بين ثنايا هذا الإصدار العديد من الانهيارات أمام الدولار؛ حيث وصل سعر الصرف في 2003 5.5 جنيهات للدولار الواحد.
في يناير 2011، وعقب ثورة يناير، انخفض إلى 6.1 جنيهات للدولار الواحد..
بالرغم من تزايد عدد مرات طباعة هذا الجنيه إلى ما يزيد عن 550 طبعة، لم يتم تغيير شكل الورقة، في حين أنه كان لا بد من تغيير شكل العملة كل 10 سنوات لحمايتها من التزوير..
وقد شارك الشكل المعدني الجديد للجنيه رفيقه الورقي أسوأ تقييم للجنيه المصري في تاريخه. حيث وصل سعر الدولار في تاريخ 2/11/2016 في السوق السوداء حالة من عدم الثبات حيث وصلت قيمة صرف سعر الدولار اليوم عند سعر 18 جنيها في ارتفاع جنوني. بينما تواصل قيمة الصرف والتحويل الاستقرار داخل البنوك المصرية والمصارف الرسمية عند سعر صرف 8.85 للشراء في مقابل 8.88 للبيع.
والأسباب الأساسية لارتفاع سعر الدولار وفقا لتقرير البنك المركزي و بالتالي انخفاض قيمة الجنيه:
- حدوث عجز في ميزان المدفوعات تفوق 24 مليار دولار.
- ارتفاع عجز الميزان الجاري ليصل إلي 14.5 مليار دولار عن الفترة يوليو/ مارس 2015/2016.
- ارتفاع الإنفاق المحلي بدون إنتاج مما يؤدي إلى زيادة الواردات من السلع.
- تدني موارد النقد الأجنبي من السياحة نتيجة عدم الاستقرار الأمني.
- انخفاض تحويلات المصريين العاملين بالخارج نظرًا لوجود ممارسات غير شرعية.
- تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر نتيجة عدم إجراء إصلاحات وتعديلات تشريعية لازمة.
- تراجع الاستثمار في المحافظات نتيجة تراجع التصنيف الائتماني وضعف الثقة في القدرة علي تدبير النقد الأجنبي.
- ضعف موارد النقد الأجنبي داخل القطاع المصرفي.
- تداول الأخبار المغلوطة والشائعات والمضاربات على العملة، الأمر الذي يؤدي إلى فقدان الثقة فيها.
التعويم : الحل الأنجع أم رصاصة الرحمة؟
في يوم الأربعاء 2 نوفمبر 2016 أعلن البنك المركزي المصري تحرير سعر صرف الجنيه المصري ليتم تحديده وفقا لآليات العرض والطلب فيما يعرف بتعويم العملة. وقد قام بتحديد سعر إسترشادي بقيمة 13 جنيها للدولار الواحد. وتبقى للبنوك الحرية الكاملة في تحديد سعره وفقا لحالة السوق.
كانت هذه رحلتنا مع العملة المصرية منذ بداية ظهورها حتى اليوم. لنعطي للقارئ نظرة تاريخية تمكنه من وضع تصور لتطور العملة، وتغير قيمتها عبر التاريخ.
من المؤكد أن الجنيه اليوم يعاني أزمة كبيرة أسبابها كثيرة ومتعددة.، لكن ينبغي لنا أن نذكر أمرًا هامًا؛ وهو أن قيمة العملة ما هي إلا مرآة للحالة الاقتصادية للدولة. وإذا أردنا حل المشاكل التي تعاني منها العملة فيجب علينا النظر إلى الأسباب الاقتصادية التي أدت للمشكلة، فانخفاض قيمة العملة ما هو إلا عَرَضٌ لمرض أكبر قد يعاني منه الاقتصاد.