الكساد الكبير : البداية
بدأ الأمر في الرابع والعشرين من أكتوبر عام 1929 مع بداية انهيار سوق الأسهم في وول ستريت (Wall Street) فيما عرف بالانهيار العظيم أو أزمة 29، ومن هنا كانت بداية ما عُرِف فيما بعد بالكساد الكبير، والذي استمر 12 عامًا ولم ينته إلا مع دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب العالمية الثانية.
ولكي نفهم الأمر فهماً جلياً علينا أن نعود بالزمن إلى ما قبل البداية؛ لأن بداية كل شيء هي نهاية اكتمال مُسبباته، ثم نمر بمرحلة الكساد نفسها وما أعقبها؛ حتى تتضح لنا الصورة كاملةً ونجمع قطع الأحجية كي يتكون لدينا التصور المستوعب للموضوع، وحتى نعلم لِمَ استمر هذا الكساد تلك المدة كلها؟ ولم سُمِّي بالكساد الكبير؟ وما هي الأسباب التي أدت إليه؟
السؤال المُلِح هو: كيف تحولت أزمة اقتصادية أعقبها تراجع في التجارة وانكماش في الاقتصاد إلي أكبر كساد في التاريخ الاقتصادي الحديث؟
لم سُمي الكساد الكبير بهذا الاسم ؟
الإجابة بسيطة، وها هي بعض الأرقام والإحصائيات التي توضح ذلك:
- استمر هذا الكساد لمدة 12 عاما.
- في ذروته، ارتفعت نسبة البطالة في الولايات المتحدة الأمريكية إلي 25% أما بالنسبة لمن احتفظوا بوظائفهم فقد انخفضت أجورهم بنسبة 42%.
- تراجع الناتج القومي للاقتصاد الأمريكي من 103 مليار إلى 55 مليار.
- وعلى المستوى العالمي انخفضت التجارة العالمية بنسبة 65% .
هذه الأوضاع الاقتصادية المزرية لم تكن خاصة بالولايات المتحدة الأمريكية فقط بل طالت أوروبا أيضًا؛ بسبب ترابط الاقتصادات ببعضها؛ وبالتالي امتد أثرها إلى دول عديدة.
ولكن ما هي مسببات تلك الأزمة وما السياسات التي أدت إلى استمرار هذا الكساد طوال هذه المدة من الزمن، أي ما يزيد عن عشر سنوات؟ بخلاف جميع حالات الكساد التي سبقته والتي كان متوسط أعمارها سنتين أو ثلاث سنوات؟!
للإجابة عن هذا السؤال بأفضل طريقة؛ يجب علينا ألا ننظر إلى الكساد الكبير كحدث مستقل، ولكن كحدث سبقته أحداث وظروف أدت إلى وقوعه ولحقته أحداث وظروف أدت إلى الإطالة في عمره.
المرحلة الأولى من الكساد الكبير
وتسمى المرحلة النقدية، والتي تبين أن جذور الأزمة آتية من السياسات النقدية التي كان سَمْتها الأكبر هي الإسراف والتي اتبعت في العشرينيات من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي، والتي كان لها دور رئيسي في إشعال الأزمة واستمرارها، لذلك يجب أن نتناول الموضوع من خلال السياسات التي اتخذها قبل الانهيار العظيم و ظلت بعد ذلك متزامنة مع الكساد الكبير.
ومن هذه السياسات ما وثَّقَه موراي روثبورد (Murray Roth bard) الاقتصادي والمؤرخ وعالم العملات:
- أولًا: زيادة كمية المال والائتمان (الإقراض) بطريقة كبيرة جدًا حيث أن السيولة (المعروض من المال) زادت بمقدار 66% تقريبا في الفترة بين أواخر عام 24 حتى بداية عام 29 . أتبع ذلك محاولة تقليص المعروض من النقود إلي الثلث من قبل نظام الاحتياطي الفيدرالي في ربيع عام ولكي يقوم الاحتياطي الفيدرالي بهذا التخفيض للمعروض من المال قام برفع سعر الفائدة.
هذه السياسات المتخبطة أدت إلى تضخم حاول الاحتياطي الفيدرالي تداركه برفع سعر الفائدة على القروض.
ولكن المراقبين لهذا الوضع وللسياسة النقدية من الصيارفة والمستثمرين في سوق الأوراق المالية فطنوا إلى ما وراء هذه السياسة النقدية، وأن نظام الاحتياطي الفيدرالي قد غيَّر سياسته بشكل كبير برفع سعر الفائدة بهدف تقليص كمية المعروض من النقود وأن هذا سيحدث حاله من الانكماش وتراجع في أسعار الأسهم بسبب انتقال المستثمرين من سوق الأسهم (البورصة) إلي البنوك لأنها تضمن استثمارا أكثر أمانا خالياً من مخاطر المضاربة وما يصاحبها من ارتفاع وانخفاض في الأسعار، وعائدا ثابتًا بسبب الفائدة الثابتة.
مما ولَّد موجة من بيع الأسهم من قبل هؤلاء المراقبين وهنا كانت بداية انهيار سوق الأسهم وفقدان الثقة إلي أن اشتدت هذه الموجه وظهر أثرها في أكتوبر من عام 1929 فأدَّتْ إلى “الانهيار العظيم” في أواخر أكتوبر والذي كانت السياسة النقدية الخاطئة مساهمًا رئيسيًا فيه.
ومع كل هذا فمن الخطأ أن نظن أن أزمة 29 هي السبب الرئيسي لحدوث الكساد؛ فالأزمة ما كانت إلا عَرَضًا لمرضٍ مزمنٍ سيلحق بالاقتصاد الأمريكي.
فحتى مع حدوث الأزمة لم يكن الوضع بهذا بالسوء الذي يتخيله البعض، بل كان مجرد تراجع في الاقتصاد وانكماش في التجارة، ولو ظلت السياسات المتبعة من قبل الاحتياطي الفيدرالي والحكومة الأمريكية علي حالها فلربما كان سيتجه السوق في عام 1930 إلي التعافي حيث أن نسبة البطالة بلغت 8% فقط وهي قريبة من معدل البطالة اليوم في أمريكا، وسوق الأسهم في ذلك الوقت كان قد استعاد نصف المساحة التي خسرها منذ الانهيار العظيم.
ولكن في هذا الوقت حدث شيء آخر!
المرحلة الثانية من الكساد الكبير: الحمائية
ما معنى الحمائية؟
الحمائية ببساطة هي تشديد الإجراءات ورفع الرسوم الجمركية في وجه الواردات بهدف حماية الصناعة المحلية من المنافسة الأجنبية.
وهذه هي المرحلة الثانية من مراحل الكساد الكبير وأطلق عليها مرحلة (تحلل الاقتصاد العالمي) حيث تم تمرير وإقرار قانون الرسوم الجمركية تعريفة سموت هولي (Smoot Hawley) في يونيو من عام 1930 وعلي إثره ارتفعت الرسوم الجمركية إلي حد لم يسبق له نظير، حيث أصبحت الحدود تقريباً مغلقة في وجه الواردات، وبطبيعة الحال بما أن أمريكا قامت بتشديد الحواجز في وجه الواردات حذت العديد من الدول حذوها.
الشيء البديهي الذي يجب أن تتوقعه أن هذا سوف يؤدي إلي حدوث انهيار في التجارة العالمية لأنه لا يمكنك أن تغلق الباب في وجه الواردات دون إغلاق الباب في وجه صادراتك عاجلًا أم آجلاً وبحساب منطقي سليم إذا لم يكن بوسع الأجانب أن يبيعوا منتجاتهم في الأسواق الأمريكية فكيف سيحصلون علي الدولارات اللازمة ليشتروا المنتجات الأمريكية؟
وبالتالي أدى إلي حدوث انهيار في قطاعي الزراعة والصناعة الأمريكية التي تعتمد علي التصدير بشكل كبير، مما أدي إلي تشرُّد الآلاف من المزارعين وتركهم لمزارعهم الأمر الذي أثَّر على الكثير من بنوك المدن الصغيرة وإفلاس الآلاف منها.
بحلول عام 1932 ارتفعت البطالة إلي حدود 10%، وانخفضت التجارة الخارجية لأمريكا إلى النصف وحلَّ الدمار بصناعة التصدير الأمريكية من خلال قانون كان الغرض منه حماية الصناعات المحلية من المنافسة الأجنبية وفي النهاية كان الأمر بمثابة كارثة للولايات المتحدة، وما إن بدأ البلد تلو الآخر بزيادة الجمارك ووضع الحواجز حتى أصيبت التجارة الدولية بحالةٍ شبيهة بالشلل وتسارع معدل السقوط نحو الكساد.
وبانهيار التجارة؛ تفاقمت البطالة والفقر وفي غضون عامين من إقرار تعريفة سموت هاولي انهارت التجارة العالمية بمعدل 65% وأصبح الأمر أقرب إلى كساد كامل كبير في جميع أنحاء أمريكا ومناطق أخري من العالم.
المرحلة الثالثة من الكساد الكبير: الصفقة الكبرى
في عام 1932 فاز ثيودور روزفلت (Roosevelt) في انتخابات الرئاسة الأمريكية وهنا بدأت مرحلة جديدة في عمر الكساد الكبير ستمد في عمره أكثر فأكثر، وعلي غير المتوقع خابت الآمال التي كانت معلقة علي روزفلت بإنهاء الكساد وقادت سياسته وإدارته إلى الطريق المعاكس.
وسوف نأخذ مثالًا علي ذلك بعضَ القوانين التي تمَّ تمريرها في عهد روزفلت والتي كان لها الأثر الكبير في الإسراع نحو تدمير الاقتصاد
قانون تعافي الصناعة الوطنية؛ والذي كان يتمحور حول فكرة بسيطة:
- أولاً: كان هناك الكثير من المنافسة في الاقتصاد الأمريكي، هذا على الرغم من تخفيض العرض النقدي وتشديد الحواجز على الواردات بهدف حماية البضائع المحلية من المنافسة الأجنبية.
لكن حينها حدث استنتاج خاطئ؛ وهو إذا كان الانخفاض الحاد في الأسعار سببه وفرة العرض بسبب المنافسة الشديدة بين الشركات الأمريكية، فهل كان الحل الناجح – كما ظن البعض – في سحق المنافسة لتحفيز الأسعار حتى ترتفع؟ وهل سيؤدي هذا إلى جلب الازدهار إلى الاقتصاد من جديد فيبدأ في التعافي؟!
فهذا القانون كان الغرض منه تنظيم الاقتصاد الأمريكي عبر التحكم في الأسعار من قِبَل السلطة الفيدرالية، وفي ظله أصبح غير مسموح بمخالفة الأسعار الجديدة ومن يفعل ذلك كان السجن مصيره، وبالطبع قتل هذا أي رغبة في المنافسة في السوق، الأمر الذي ألحق ضررًا في الاقتصاد بشكل كبير.
- ثانيًا: وكأن هذا لا يكفي!! فقام روزفلت بتمرير قانون التعديل الزراعي وكان محفزًا بفكرة أنه يوجد عرض كبير جدًا في المجال الزراعي، فقام بفرض ضريبة جديدة علي معالجة المنتجات الزراعية في ظل صناعة غارقة في الكساد وتم التوجه نحو التقليل من الناتج الزراعي والحيواني فبدأ في برامج التخفيض فتمَّ إعدام الكثير من رؤوس الماشية التي كانت في تمام الصحة، وشرع في تدمير الكثير من محاصيل الذرة والقمح والقطن وغيرها من المحاصيل التي كانت بحالة جيدة.
هدفت كل هذه الإجراءات إلى الحد من الإنتاج وتقليل المعروض من السلع فترتفع الأثمان فيُحسّن هذا من الاقتصاد.
لكن تحولت وصفة التعافي إلى دواء زاد المريض مرضًا حتى كاد أن يقتله وفي منتصف الثلاثينيات قامت المحكمة العليا بإلغاء هذين القانونين؛ فبدأ الاقتصاد أخيراً في إظهار بعض علامات التعافي إلى أن حلَّ عام 37 حيث حدث انهيار سريع جدًا من جديد وارتفعت نسبة البطالة من جديد ونَسَبَ بعض الاقتصاديين ذلك إلي ضرائب روزفلت المرتفعة؛
مثل: ضريبة الربح غير الموزع، والتي فُرضت علي ربح الشركات الذي لا يذهب للشركاء ويعاد استثماره من جديد، هذا إلي جانب سعيه إلي فرض ضرائب علي أي شيء يستطيع أن يفرض عليه ضرائب ، وقام أيضًا برفع ضريبة الدخل من 70% إلى 91%.
واستمر وضع الاقتصاد هكذا في المناوبة بين التعافي و التهاوي إلى أن أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية المشاركة في الحرب العالمية الثانية، ومع اشتداد التحضيرات للحرب في أوروبا بدأت صناعات جديدة في الظهور وبالأخص الصناعات العسكرية بالإضافة إلى الصناعات التي تدخل منتجاتها كمواد أولية لصناعة الأسلحة – كبعض صناعات المعادن التي تدخل في صناعة الطائرات إضافة إلى صناعات قطع غيار المركبات القتالية – التي خلقت طلبًا كبيرًا على العمالة مما ساهم في تخفيض نسبة البطالة.
كل هذا النشاط الاقتصادي المرافق للحرب ساهم بشكل ما في خروج الولايات المتحدة الأمريكية من الكساد الكبير، فصَدَقت على الحرب العالمية الثانية – بحق – المقولة العربية “رُبَّ ضَّارةٍ نافعة”.