عندما ينهار بناء ما فعادة ما يكون السبب غير ناتج عن خلل في عمود واحد أو دعامة واحدة بعينها؛ وذلك لأن جميع عناصر المبنى مترابطة ويعزز بعضها بعضًا، فإذا انهار المبنى فهذا يعني أن خطأ ما كان موجودًا منذ بنائه، وهذا الخطأ عادة ما يكون عيبًا في أساس المبنى
البناء الإقتصادي للنفط .
الأمر لا يختلف كثيرًا في الاقتصاد، ولننظر إلى انهيار أسعار النفط على سبيل المثال.
هناك من سيلومون منظمة الأوبك، أو الصين، أو الولايات المتحدة، ولكن كل هذه ليست سوى دعامات وأعمدة للهيكل، وهي مترابطة ويعزز بعضها بعضًا، ولا يمكن إلقاء لوم انخفاض أسعار النفط على جزء من أجزاء الهيكل الاقتصادي، لأن المشكلة في النظام نفسه.
الدعامة الصينية
منذ ما يقرب من 30 عامًا عكفت الصين على استراتيجية اقتصادية جديدة قدمت فيها نفسها على أنها الصناعة الأقل سعرًا والأكثر كفاءة في العالم، والتقطت الشركات متعددة الجنسيات في جميع أنحاء العالم طرف الخيط ونقلت نسبة كبيرة من التصنيع الى الصين، وكلما تقدمت هذه العملية، كلما زاد بشكل كبير الطلب العالمي طلب الصين بوجه الخصوص على النفط والطاقة.
والصين لم تحتاج فقط إلى مزيد من الطاقة لتموين المصانع الجديدة وبناء المدن في مختلف أنحاء تلك المصانع (مع الزيادة الضخمة في الهجرة الداخلية من الريف إلى هذه المراكز العمرانية الجديدة) ولكنها احتاجت أيضًا إلى المنتجات القائمة على النفط والمواد الخام المستخدمة في التصنيع، فرفعت الشركات متعددة الجنسيات من استهلاك الطاقة ) ولنتذكر أنها رفعت أيضا من الثلوث البيئي (لأنهم كانوا ينقلون البضائع آلاف الأميال عبر المحيط بدلا من عشرات الأميال عبر المدن أو مئات الأميال عبر البلدان، فأصبح سوق النفط يبدو كأنه على مسار تصاعدي لأجل غير مسمى، مدفوعًا بالتوسع اللانهائي للقدرة التصنيعية الصينية.
تصدع الدعامة الصينية
يبدو الأمر جيدًا بهذا الشكل، أليس كذلك؟ أجل، ولكنه ليس جيدًا على الإطلاق.
فقدرة الصين التصنيعية في الواقع نمت بشكل مطرد، بينما راحت المزيد والمزيد من الشركات الغربية تنقل إنتاجها إلى الصين، محققين بذلك مستويات لم تسبق في التاريخ من الإنتاج الضخم وفاعلية التكلفة، ولكن ما فشلت الشركات في أخذه بعين الاعتبار، وكان من المتوقع ألا يأخذوه بعين الاعتبار؛ هو حقيقة أن الانتقال بالإنتاج إلى الصين يعني فقدان الوظائف في الولايات المتحدة وأوروبا وكذلك انخفاض الأجور.
ولكن ما هو الخطأ هنا؟ حسنًا، كل هذه الزيادة في الطاقة الإنتاجية سحقت الغرض من بيع المزيد من السلع إلى المستهلكين الغربيين، فهؤلاء المستهلكون الغربيون أصبحوا في ضائقة مالية وخيمة؛ وتلك هي المشكلة الأساسية الكامنة في الاقتصاد القائم على التصدير، فهو يعتمد على المطالب الاستهلاكية للسوق التي تستورد منه، فطالما ظلت الصين تعتمد على صادراتها لتحقيق نموها الاقتصادي واستقرارها، فلن يكون في مقدورها أبدًا أن تحقق استقلالها الاقتصادي الحقيقي، فما لا يقل عن نصف ما تنتجه الصين من كل شيء يكون بغرض التصدير، وهذا ما جعل من الصين المحرك الأول للتجارة العالمية بما يقرب من نحو 4 تريليون دولار سنويا، ولكنهم في النهاية بحاجة إلى مشترين! فبدون مشترين سينهار تمامًا الأساس الذي يعتمد عليه اقتصادهم، وبينما تظل الولايات المتحدة، وهي أكبر اقتصاد في العالم حتى الآن، السوق الأكثر أهمية للصادرات الصينية، فعندما يقع الاقتصاد الأميركي في حالة ركود، يجد طاغوت التصنيع الصيني نفسه مضطرًا إلى الوقوف، أو كما يقول الاقتصاديون، “عندما تصاب الولايات المتحدة بنزلة برد تصاب الصين بالالتهاب الرئوي”.
الدعامة الأمريكية
هذه الإشكالية المحيرة وكمحاولة للتمويه عليها بعض الوقت من خلال القناع الذي استخدمه الغرب للتغطية على الفقر: بطاقات الائتمان. فالانحدار في نمو الاقتصاد الأمريكي خلال السنوات القليلة الماضية، وانخفاض الأجور الحقيقية وارتفاع معدلات البطالة، وارتفاع تكاليف المعيشة، وما إلى ذلك، كان من الممفروض أن يضع قيودًا على الاستهلاك منذ زمن طويل، ولكن البنوك قامت بتمويل نمو اقتصادي مصطنع عن طريق تقديم قروض ميسرة لإرواء أغراضها الضارية، مما تسبب في توسيع وتعميق الديون المنزلية والأسرية على نحو متزايد جعل الناس غير قادرة على السداد… وجاءت الأزمة المالية لعام 2008 وجعلت هذا القناع يتداعى فورًا.
والآن حتى ونحن نرى مؤشرات للتعافي والانتعاش، إلا أن الإنفاق الاستهلاكي يظل راكدًا. لماذا ا؟ لأن الناس قد وقعوا في الديون للدرجة التي تجعلهم إذا كان لديهم أي أموال فائضة، فإنهم سيضطرون لإرسالها إلى وكالات تحصيل الديون بدلا من إنفاقها في الأسواق، وهكذا تنقذ الحكومة نفسها وتنقذ سياسات التسهيل الكمي البنوك، بدلا من أن تنقذ المواطنين.
وبالتالي فقد قامت الصين بإعادة تقييم جدوى كونها اقتصاد تصديري وأصبحت تسعى إلى زيادة الطلب المحلي على السلع. حسنا! هذا يعني أن العمال الصينيين سيحتاجون إلى مزيد من المال ورواتب أعلى، حتى نستطيع أن نرى كيف ستسير الأمور! الصين قللت من وتيرة الصناعات وهذا يعني أنها قللت من وتيرة استهلاك الطاقة، ولسخرية القدر كان اندفاع الشركات المحموم لزيادة الطاقة الانتاجية سببًا في انخفاض الطلب؛ لأنهم تسببوا في بطالة وإفقار ومديونية أسواقهم، وحتى تستطيع الصين أن تكون سوقًا بديلًا، فهذا سيقلل من كفاءة استخدام الصين كمركز للتصنيع الزهيد؛ لأنه سيتحتم عليهم دفع أجور كافية للعمال ليكونوا فعلا قادرين على تحمل السلع التي يتم إنتاجها.
عوامل خارجية
وهناك عامل آخر ضمن أسباب انخفاض أسعار النفط، وها نحن مرة أخرى نرى نفس السبب تقريبًا: التكنولوجيا التي تم تطويرها حديثًا وتسمى “استغلال الغاز الصخري أو غاز الأردواز – Fracking”، وفيها يتم ضخ المواد الكيميائية في الأرض للضغط على طبقات الصخر وعصرها حرفيًا، مما يلحق بالبيئة ضررًا شديدًا، مما أحدث حالة من الإثارة العارمة في قطاع الطاقة بأمريكا.
نعم، لقد قدّم استغلال الغاز الصخري وعودًا للولايات المتحدة بمستويات غير مسبوقة من استخراج النفط، مما يتيح لها أن تصبح مُصَدِرةً صِرفًا للنفط بدلا من أن تكون مستوردة له، وها هو النموذج الصيني في أبهى صوره يتكرر مرة ثانية: زيادة الطاقة الإنتاجية وإغراق الأسواق التي لا تحتاج أصلًا إلى ما يتم إنتاجه. ولكن كيف قامت شركات الطاقة بتمويل هذا البلاء الرائع المسمى “استغلال الغاز الصخري”؟ بملايين الدولارات في شكل قروض من البنوك التي أُخِذَت تحت فرضية أن سعر النفط – وبالتالي أرباح الشركات والقدرة على سداد القروض- ستظل مستقرة ومرتفعة، فهؤلاء العباقرة من أصحاب الشركات لم يتوقعوا ما كان واضحًا وضوح الشمس، وهو أن إغراق السوق النفطية من شأنها أن تؤثر سلبًا على سعره، والآن، ها نحن نرى تلك الشركات تقوم بتسريح الآلاف من العمال وهناك دولًا بأكملها على شفا الانهيار الاقتصادي، مسببين المزيد من الإفلاس لسوق الصادرات الصينية، وبالتالي انخفاض الطلب الصيني على الطاقة.
و على نفسها جنت براقش
هذا المبنى ينهار لأن هيكله كله غير سليم، فقد تم بنائه على أساس خاطئ منذ البداية.. هذا الأساس الذي كان مدفوعًا بهيمنة الربحية على كل شيء