استكمالًا لمقالي السابق (ثورة الذهب الأسود) الذي كان يتحدث عن العام الماضي 2015 وما حدث فيها من تطورات بأسواق النفط؛ حيث وجدت أن العام تقريبًا بكل تفاصيله قد تكرر في الشهر الأول من العام الجديد 2016، ولكن بصوره أشد عنفًا؛ فالنفط بات يتأرجح دون الـ30 دولارًا للبرميل والأزمة خرجت عن السيطرة والأسواق العالمية تدفع الثمن بخسائر وصلت إلى 10 تريليون دولار في يناير فقط، فأين تكمن الأزمة؟!. ومن يملك الحل؟!
في البداية، كان يتخيل البعض أن حرب إنتاج النفط لن تدوم كثيرًا أو بمعنى أصح لن يستطيع الخليج التحمل مدة أطول، وقد يكونون على حق ولكن لم يعد القرار يملكه الخليج أو “أوبك” أو حتى السعودية، فالتراجع الآن يعني الهزيمة والإفلاس ربما، فروسيا التي على حافة السقوط لا تفكر أبدًا في التراجع، والسعودية بين تصريحات عنترية بالقبول بسعر 10 دولارات وبين مفاوضات لحل الأزمة، وأمريكا في كلتا الحالتين مستفيدة ولا تريد حتى التدخل تاركة الآخرين يتنافسون وتجني هي الفوائد.
وبحسب “بلومبرج” فإن موسكو تحتاج لتدابير تقشفية بحوالي 1.5 تريليون روبل (حوالي 18.9 مليار دولار) لتجنب عجز متوقع بأكثر من 6% في عام 2016. لكن مع انخفاض أسعار النفط، وانهيار العملة المحلية بات الأمر في غاية الصعوبة؛ حيث يرجح أن يستمر الاقتصاد في الانكماش لعام آخر، ولكن كل هذه المعطيات لا تجبر روسيا على التراجع.
في الوقت الذي تشتعل فيه الأزمة، يخرج البنك الدولي ليخفض توقعاته لأسعار النفط بمقدار 14 دولارًا إلى 37 دولارًا للبرميل خلال عام 2016 في ظل تزايد وفرة المعروض وضعف التوقعات بشأن الطلب من الأسواق الناشئة، مشيرًا إلى أن أسعار النفط سوف تتراجع بنسبة 27% في عام 2016 بعد هبوطها بنسبة 47% في 2015، وهذه التوقعات تجعل التشاؤم يخيم أكثر على الاقتصاد العالمي.
لكن من جانب آخر هناك بصيص من الأمل؛ حيث كشفت تقارير رسمية أن واردات الصين من النفط قد سجلت ارتفاعًا خلال العام الماضي، رغم التباطؤ، فقد أعلنت الهيئة العامة للجمارك في الصين أن واردات البلاد من النفط قد سجلت زيادة قدرها 9.3% إلى 33.2 مليون طن متري خلال شهر ديسمبر الماضي على أساس سنوي.
وارتفع إجمالي واردات الصين من النفط الخام خلال عام 2015 بنسبة 8.8% لتصل إلى 335.5 مليون طن متري، لكن هذا الأمل أيضًا ليس كافيًا لدعم الأسعار؛ فالفائض أكبر بكثير والطقس الأوروبي لا يساعد كثيرًا، إذًا فما الحل؟!
تعالت الأصوات في يناير -أيضًا- وحتى الآن باتفاق بين المنتجين على تخفيض الإنتاج النفطي من قِبل كل المنتجين سواءً داخل أو خارج “أوبك”، لكن في الحقيقة هذا الأمر يكاد يكون مستحيلًا؛ فالسعودية لا تريد أن تقع في نفس الفخ القديم ولا تفكر سوى في الاحتفاظ بحصتها السوقية، وروسيا لا تفكر في ترك الصدارة وتتعامل بمنطق الغابة “البقاء للأقوى” فمن يتحمل انخفاض الأسعار أكثر يفوز في النهاية بكل شيء، وهذا بالطبع يضع دولًا كثيرة على حافة السقوط.
وعلى ما يبدو أن “أوبك” لن تستطيع المواصلة في حرب الإنتاج؛ فبحسب بيانات حديثة قد انخفض الناتج الإجمالي لدول “أوبك” من 3.392 تريليون دولار في عام 2014 إلى 2.849 تريليون دولار في نهاية العام الماضي 2015، حيث خسرت دول “أوبك” نحو 543 مليار دولار خلال عام.
من جانبها السعودية، وبحسب تقرير النقد الدولي ستعاني عجزًا في الميزانية يزيد عن 20% من الناتج الإجمالي المحلي هذا العام؛ نتيجة تراجع أسعار النفط التي ستؤثر على ميزانيات كبار المنتجين خاصة في الشرق الأوسط.
وبحسب حسابات الصندوق؛ فإن المملكة بحاجة لبيع برميل النفط بحوالي 106 دولارات للوصول لتوازن الميزانية، فيما سيبقى هناك تأثير سلبي على الاحتياطات النقدية التي كونتها خلال فترات ازدهار النفط مع تواصل تراجع الأسعار.
وتشير التوقعات إلى أنه مع تواصل تحرك سعر برميل النفط حول 50 دولارًا فإن السعودية ستفقد احتياطياتها النقدية خلال خمس سنوات تقريبًا، وهي نفس المدة بالنسبة لعمان أيضا، لكنها تقل عن ذلك بالنسبة للبحرين، وتقفز لحوالي 25 عامًا لقطر، و28 عامًا للإمارات، و23 عامًا للكويت.
اللافت للنظر في حسابات صندوق النقد الدولي؛ أن الكويت ومن بعدها قطر تقريبًا هما الأقرب للاستفادة من أسعار النفط الحالية لتحقيق التوازن في الميزانية عند 49 دولارًا، و56 دولارًا على الترتيب لكلٍ منهما، لكن الفارق يبدأ في الاتساع لباقي دول الشرق الأوسط ليقفز فوق 200 دولار بالنسبة لليبيا واليمن، وتوقع التقرير خسارة مصدري النفط في الشرق الأوسط حوالي 360 مليار دولار هذا العام؛ نتيجة تراجع الأسعار التي هوت بوتيرة سريعة منذ منتصف العام الماضي.
إذن السعودية هي الحلقة الأضعف، وهذا يبرر ما قاله وزير الطاقة الروسي “ألكسندر نوفاك” أن السعودية قد اقترحت أن تخفض الدول المنتجة للنفط الإنتاج بما يصل إلى 5% وهو ما يمثل نحو 500 ألف برميلٍ يوميًا بالنسبة لروسيا أكبر مُنتِج في العالم.
وقال نوفاك: “في الواقع هذه المحددات اقتُرحت لخفض إنتاج كل بلد بما يصل إلى 5%، هذا موضوع متروك للمناقشات ومن السابق لأوانه الحديث عنه”، والناظر لحديث “نوفاك” يدرك أن روسيا باتت المسيطرة، والسعودية تفاوض بعدما أشعلت الحرب.
عمومًا المسلسل مازال طويلًا جدًا؛ فالأسواق باتت هشة بشكل لا يمكن تصوره فأي خبر إيجابي يصعد بها في دقائق وأي خبر سلبي يهوي بها في ثوانٍ، وهذا هو عدم الاستقرار الذي تخافه الدول، فعلى سبيل المثال: ارتفعت أسعار النفط خلال تداولات، الأربعاء، وزادت مكاسبها أثناء الجلسة وسط انخفاض واسع النطاق للدولار مقابل أغلب العملات الرئيسية، بالإضافة إلى تجدد التوقعات بشأن اجتماع بين “أوبك” ومنتجين من خارج المنظمة لدعم الأسعار، وذلك على الرغم من القفزة التي حققها المخزون الأمريكي في القراءة الأسبوعية.
فعند الإقفال، قفزت العقود الآجلة لخام “نايمكس” الأمريكي تسليم مارس بنسبة 8% أو بمقدار 2.40 دولارًا وأغلقت جلسة نيويورك عند 32.28 دولارًا للبرميل بعد انخفاض بأكثر من 11% على مدار الجلستين الماضيتين.وارتفعت أيضاً العقود الآجلة لخام “برنت” القياسي تسليم مارس عند التسوية بنسبة 7.1% أو بمقدار 2.32 دولارًا وأغلقت جلسة لندن عند 35.04 دولارًا للبرميل.
نموذج التأثر هذا الذي يحدث بالأسواق، وستجدون بعد يوم أو اثنين على الأكثر تصريحًا أو خبرًا سلبيًا يُسقِط الخام إلى مستويات متدنية جديدة، وتستمر الدائرة حتى تحدث صدمة قوية في الأسواق تعود من خلالها الأمور لنصابها، ولكن متى يحدث ذلك؟ الله أعلم، ولكنني لا أتوقع أن يحدث هذا العام.