تقليص العجز … شدوا الحزام !
ليس هناك بُد من أن تقوم الحكومة بتخفيض الإنفاق، فمن غير المعقول أن تستمر في ضخ الأموال في أمور تافهة، مثل: الدعم والتعليم والصحة إذا كانت ترغب في ضبط ميزانيتها… يبدو أن خفض الإنفاق ضرورة ملحة من أجل تقليص العجز!
تمامًا مثل الأسرة، ليس من الممكن أن تظل الحكومة تقترض إلى الأبد، فلو تخيلنا أسرة تقترض طوال حياتها فبالتأكيد ستظل تغوص في الديون أكثر وأكثر ولن تنتشل نفسها منها أبدًا. عندما تكون ميزانية أسرتك أقل من مصروفاتها هنا يجب عليك أن “تشد الحزام” وتضحي وتقلل من الإنفاق… ونفس الشيء يحدث مع الحكومة.
وها قد وصلنا إلى جوهر الجدلية النيوليبرالية التي تبرر للحكومات التراجع عن مسؤولياتهم من أجل الصالح العام، وهو الأساس الذي يسوغون به تدابير التقشف. ولكن كل هذه ما هي إلا مغالطات تافهة … وإليكم الأسباب!
المغالطة الأولى: المثال البديهي
أولًا: الحكومات ليست كالأُسَر! فهم يستخدمون هذا التشبيه لأننا جميعًا نفهمه، لكننا في الحقيقة نفهمه أكثر من اللازم! فكوننا نعاني من ضغط الديون، ونكافح لكي نفي بمتطلباتنا، ونعاني من فواتير تفوق دخولنا الشهرية، ونضطر للاقتطاع من هنا وهناك لكي نوفر بعض المال. ثم نتخذ هذه القرارات المؤلمة عندما نجد أنفسنا مضطرين للاختيار بين شراء الطعام أو شراء الدواء… أجل، يبدو أننا جميعًا نفهم هذه الأمور جيدًا، فنحن نعرف الكثير عن التضحية من أجل سداد الديون للدائنين، ولذلك فعندما تستخدم الحكومة هذه الأمثلة فهي تجد عندنا صدى جيد وقبول.
فمن غير البديهي أن نظل نحافظ على تفاقم الديون ونحن -بالفعل- غارقون فيها حتى آذاننا، ولكن هذا سببه هو أننا نحن البشر لدينا دورة حياة، فنحن نكبر في العمر ونمرض وفي النهاية نفقد القدرة على العمل أو الكسب، ونحن جميعًا نفهم هذا جيدًا تمامًا كما يفهمه هؤلاء الدائنون! كبشر نحن نعيش داخل إطار يَحُد من قدراتنا على سداد ديوننا، ولكن كل هذه الأشياء لا تنطبق على الحكومة.
المغالطة الثانية: الدول لا توجد لها خطط للتقاعد!
من المفترض أن تظل الحكومات قائدة إلى أجل غير مسمى، فهي تكسب إلى أجل غير مسمى، والدائنون يفهمون أن الحكومة لديها إطار زمني غير محدود للسداد، فلا يوجد أي سبب يُجبر الحكومات على وضع ميزانيات متوازنة، ولا يوجد سبب يمنعها من أن تعمل تحت العجز المستمر طالما أن هذا العجز في مستوى معتدل إلى حد معقول. لقد قالها نائب الرئيس الأمريكي السابق “ديك تشيني” بطريقته الجافة (كما يميل دائمًا)، ولكن بدون أن تجانبه الدقة: “العجز لا يهم”!.
لقد عملت الولايات المتحدة تحت ظل عجز الإنفاق على مدى الأربعين سنة الماضية، وفي اليابان وصلت النسبة الحالية للدين إلى إجمالي الناتج المحلي إلى230٪، وبالتالي من الزيف أن نقول بأن ضبط الميزانية وسداد الديون يجب أن يأخذا الأولوية على الإنفاق العام.
هذا ليس إلا اقتصاد سيء، وهذه ليست إلا صيغة للركود الاقتصادي إن لم تكن برنامجًا لإحداث انكماش في الواقع الاقتصادي… فعندما تقوم الحكومة بالتقليل من الإنفاق العام عن طريق خفض الدعم وخفض الإنفاق على التعليم والرعاية الصحية ومساعدات الفقراء؛ فهذا يعني أن المواطنين سيكون لديهم أموالًا أقل ينفقونها، مما يعني أنهم لن يشتروا أشياءً كثيرة، فهم لا يتسوقون ولا يشترون سلعًا ولا خدمات؛ لأن كل هذا ليس في إمكانهم. هذا يعني أن المال المتداول في الاقتصاد أصبح أقل، وتبعًا فهذا يضر بالشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم ورواد الأعمال الذين يظلون قادرين على سداد ديونهم من ربع مالي إلى آخر لا بشيء إلابالأرباح التي يجنونها على المدى القصير.
إذا كان الناس لا ينفقون المال القليل الذي لديهم، فإن الشركات الصغيرة تشعر بهذا على الفور، فيضطرون لتسريح العمال والحد من مشترياتهم من الإمدادات وتبسيط عملياتهم… الخ، وإذا لم يتمكنوا من خفض النفقات بما فيه الكفاية لكي يضمنوا بقائهم على أقدامهم فإنهم يجدوا أنفسهم مضطرين لإغلاق أبوابهم. هذا بالإضافة إلى أن شُح المال في السوق سيعني أيضًا ضرائب أقل تُسدد مقابل دخل العمال وعائدات أقل من ضريبة المبيعات، إذًا إعطاء الأولوية لخفض العجز في الواقع يقلل من قدرة الحكومة حتى على تسديد ديونها.
نظرة للواقع: قطاع الطاقة المصري
دعونا ننظر إلى عدد قليل من بلداننا التي يتم تسويق هذه الأيديولوجية الاقتصادية الكاذبة فيها: في مصر -مثلًا-: قام صندوق النقد الدولي (وركنه الركين ممن يطبلون له من النخبة) بتحديد الدعم على الوقود بصفته الجاني الرئيسي المسؤول عن جميع الشرور الاقتصادية في البلاد، وقال أحمد هيكل رئيس مجلس إدارة شركة القلعة القابضة: “إن نظام الدعم في مصر هو جذر مشكلتها!” ولكن هذا غير صحيح بالمرة.
أزمة الطاقة في مصر لا علاقة لها بعدم وجود موارد للطاقة أو بالدعم العام على الوقود، فنقص الطاقة في مصر والديون المرتبطة بقطاع الطاقة تنبع من إصرار شركات الطاقة الأجنبية على أخذ قدر غير متناسب من النفط والغاز الذي يقومون باستخراجه ليتم بيعه في السوق المفتوحة من أجل أرباحهم الخاص، وبينما نجد أن مصر تنتج أكثر مما يكفي من الطاقة لاحتياجاتها كآفة؛ إلا أنها لا تنتج ما يكفي لتلبية كل احتياجات استهلاك سكانها مضافًا إليها مطالب شركات الطاقة.
أي بعبارة أخرى، لم يكن هناك من داع لإلغاء الدعم أو خفضه أو حتى تعديله، بل كان من الممكن زيادته إذا تم ترشيد جشع شركات الطاقة التي تصر على جني الأرباح من موارد مصر.
خفض الدعم يزيد من مصاعب الناس، فكلما زاد ما يدفعوه من أجل الإبقاء على الأنوار مضاءة في منازلهم كلما قل ما ينفقونه في الأسواق، وهذا هو تعريف الاقتصاد السيء ! العجز في مصر وصل إلى حوالي 11٪ من إجمالي الناتج المحلي وهذا العجز معتدل نسبيًا وقابل للإدارة، فببساطة لا توجد هناك ضرورة ملحة للحد منه، فهو قابل للمقارنة بنسبة العجز إلى إجمالي الناتج المحلي في المملكة المتحدة مثلًا.
إن خفض الإنفاق العام بطريقة تقليل الدعم سيؤدى فقط إلى إعاقة نمو الاقتصاد وإعاقة قدرة مصر على سداد ديونها أو تقليلها… ونفس الشيء ينطبق في أماكن أخرى.
أمثلة مضادة : تونس والمغرب
أما في تونس؛ حيث الاحتجاجات مستمرة بسبب البطالة، سنجد أن نسبة العجز إلى إجمالي الناتج المحلي حوالي 4,7٪ فقط وهي أقل من الولايات المتحدة، فهذا العجز ليس خطيرًا والتخفيض الهستيري للإنفاق العام في محاولة لضبط الميزانية لن يؤدي إلا لجعل الأمور أسوأ. سيتم فقدان المزيد من فرص العمل وسيتم تداول أموالًا أقل وسيتعثر معدل النمو الاقتصادي إلى أن يتوقف، ولن يكونوا قادرين في النهاية على خفض العجز على أي حال، حتى وإن تخيلوا أنها مسألة ملحة ويجب علاجها فورًا.
أما في المغرب؛ حيث تم إلى حد كبير خفض الإنفاق على التعليم في محاولة للدفع باتجاه الخصخصة الكاملة، بحجة ضبط الموازنة، فنسبة العجز إلى إجمالي الناتج المحلي لا تزيد عن 5٪ ،ومرة ثانية أقول أن هذه النسبة قابلة للتعايش معها تمامًا إذا كان هناك ما يكفي من النشاط الاقتصادي والنمو، أما إذا تم خفض الإنفاق العام وتسريح المدرسين فورًا وغيرهم من العاملين فهذا سيعوق النمو ويجعل إصلاح العجز أبعد وأبعد عن التحقق.
ما يحاولون إخفاءه
الاقتصاد لا ينمو عن طريق ضبط الموازنة، والقدرة على تمويل الديون لا تتحقق عن طريق اتخاذ تدابير من شأنها أن تقلص مصادر إيرادات الحكومية… الحجة القائلة بأن العجز يجب أن يتم تقليصه وأن الديون يجب أن يتم سدادها ليست سوى عملية احتيالية؛ تهدف إلى شل الاقتصاد وتفكيك السيادة الوطنية وحل العقد الاجتماعي بين الحكومات وشعوبها.