في أكتوبر عام 1995 اختار الملحق الأدبي لجريدة التايمز البريطانية كتاب”كلُّ صغيرٍ جميل – Small Is Beautiful”، للاقتصادي إرنست شوماخر من ضمن الكتب المائة الأكثر تأثيرًا والتي نُشرت منذ الحرب العالمية الثانية.
ولد إرنست شوماخر عام 1911 في مدينة بون بألمانيا لأب يعمل كأستاذٍ في الاقتصاد السياسي، درس شوماخر في برلين وانتقل في عام 1930 إلى بريطانيا هربًا من الحكم النازي؛فدرس الاقتصاد في جامعة أكسفورد وجامعة كولومبيا في نيويورك، وخلال الفترة من 1950-1970 عمل كرئيس لمكتب الاقتصاد في المجلس البريطاني للفحم، كما أنّه ساعد كثيرًا في تعافي الاقتصاد البريطاني وانتعاشه بعد الحرب العالمية الثانية.
فكره الاقتصادي
في عام 1973 نشر إرنست شوماخر كتابه الأهم والأشهر: “Small Is Beautiful: Economics as if People Mattered” أو ما نستطيع ترجمته بعنوان “كلّ صغيرٍ جميل، الاقتصاد المَعنيّ بالناس”.
تدور فكرة الكتاب الأساسيّة حول المشاكل العديدة التي يعاني منها الاقتصاد المعاصر، فشوماخر يرى أنّ اقتصادنا الحالي كبير جدًا بصورة مخيفة، وضخم بشكل لم يشهد التاريخ مثله من قبل؛ حجم الأعمال والتبادلات بين الدول والاقتصاديات المختلفة هائل وغير مسبوق، ويؤكد شوماخر أن هذه الاقتصاديات بوضعها الحالي تدمر الكوكب، وتدفع المجتمعات لاستهلاك كميات هائلة من المنتجات المختلفة بشكل غير مبرر وغير مفهوم، وتخلق حاجات غير ضرورية وغير مهمة؛ مما يزيد من الطمع والجشع ويغذيه، فيتحوّل الإنسان لعبدٍ للآلة، راغبًا دومًا في المزيد والمزيد.
ويحلل شوماخر العلاقة بين الدخول المرتفعة في المجتمعات المتقدمة وأنماط الاستهلاك في تلك المجتمعات؛ فيرى أنّ ارتفاع دخول الأفراد في أمريكا وبريطانيا مثلا لا يُوقف نهم الناس وطمعهم نحو المزيد الغير الضروري، بل إنّه يزيد من ذلك النهم ويقوّي تلك الرغبة في امتلاك التفاهات والصراع من أجلها، فتلك المجتمعات -في نظر شوماخر- تخلق الطمع والحسد وتعيد إنتاجه وتصديره كأسلوبٍ مهيمن على نمط الحياة.
الحلّ الذي ارتآه شوماخر للخروج من أزمة الاقتصاديات الحالية، هو ضرورة إقامة اقتصاديات أكثر صغرًا، تعتمد على اللامركزية،بحيث يمكن التحكم فيها محليًا على نطاق أصغر وأضيق، فتسعى تلك الاقتصاديات المحلية إلى أن تقلل من هيمنة الآلة على طريقة الإنتاج وأسلوب الحياة؛فتستخدم تكنولوجيا أكثر ملائمة للبيئة التي تنشأ فيها، كما يجب أن تعتمد تلك الاقتصاديات المحلية على عمالة كثيفة تحقق التوازن بين الآلة والإنسان، ولا تسعى لتعظيم أرباحها على حساب العمالة فتزيد من نسب البطالة، وتدمر البيئة.
التكنولوجيا الملائمة.
المقصود بالتكنولوجيا الملائمة هو: «تطبيق مجتمع معين للعلوم الطبيعة بهدف إيجاد حلول لمشكلات محددة يواجهها، معتمدًا على الإمكانيات المتاحة لديه، مستلهمًا القيم الحضارية التي يؤمن بها».
يُلقب شوماخر بأبي التكنولوجيا الملائمة، ويمكننا اعتبار التكنولوجيا الملائمة هي تكنولوجيا ذات وجه إنساني تسعى لتوفير احتياجات البشر بأقل تأثير على موارد الكوكب وأشكال الحياة فيه، واضعةً في اعتبارها ظروف وإمكانيات المجتمع الذي تنشأ فيه.
قد يُساء فهم مضمون التكنولوجيا الملائمة فيُظَن أنها تكنولوجيا متخلفة، لا تلتفت لمدى التطور الحادث ولا تسعى لتواكبه، ولكن هذا غير صحيح، فأيّة تكنولوجيا هي ظاهرة اجتماعية بالأساس؛ تحمل في ثناياها طابع البيئة التي تنشأ فيها، ولذا تتوقف فاعلية التكنولوجيا على مدى ملائمتها للبيئة المحيطة بها، فكلما ازدادت التكنولوجيا ملائمة لطبيعة المجتمع كلما ازدات فاعليتها، وهو ما تعمل “التكنولوجيا الملائمة” على تحقيقه؛ فتستجيب لظروف المجتمعات المختلفة بحسب حاجتها، محررةً إياها من التبعية للغير.
ولقد استلهم شوماخر أفكاره الأساسية حول التكنولوجيا الملائمة؛ من دعوة المهاتما غاندي -أثناء مقاومته الاستعمار البريطاني- لإقامة مشروعات صغيرة تؤدي اكتفاءً ذاتيًا للهند، ولقد أودع شوماخر تلك الأفكار في كتابه “Small Is Beautiful”؛ وفي عام 1961 دُعيَ من قِبل رئيس وزراء الهند “نهرو” ليساعد لجنة الخطة الهندية في تطوير الريف، وكان رأي شوماخر الذي اقترحه هو ضرورة توفير تكنولوجيا تلائم الريف الهندي بحيث تنشله من فقره ووسائله البدائية وفي نفس الوقت لا تجعله خاضعًا للتكنولوجيا الغربية وتكلفتها العالية، وكان ذلك إيمانًا منه بأن أفضل مساعدة يمكن تقديمها للمجتمعات الفقيرة هي المساعدات الفكرية والمعرفية.
صمتٌ غير مفهوم.
قد تكون ممن يحبون عملهم ويمارسونه بحبٍّ واستمتاع!، ولكن شوماخر كان يفكر في الملايين والملايين من البشر الذين يعملون في ظروف غير آدمية، يُستعبدون فيها من قبل المصانع والشركات، ويمارسون أعمالا تدمر صحتهم وتقتل روحهم وسعادتهم.
تُقدِر منظمة العمل الدولية أعداد العاملين المجبرين على ممارسة العمل بحوالي 21 مليون إنسان؛ يمارسون عملهم بشكل قسريّ في صورةٍ من صور الرق المعاصر، ويستغرب شوماخر من ذلك الصمت العجيب غير المفهوم على تلك الأوضاع، فلا أحد يستطيع أن ينكر الأوضاع المأساوية التي يعمل فيها ملايين البشر، ولكن لا أحد يتكلم؛ فلا نسمع عن أولئك في نشرات الأخبار ولا في الجرائد، الجميع يعلم الحقيقة، ولكنهم يتعامون عنها!
أحدثت أفكار شوماخر جدلًا كبيرًا وقت ظهورها، وكانت لها الفضل في نشأة العديد من الحركات والمجموعات التي تمارس الاقتصاد “المَعنيّ بالناس” والذي يسعى لإقامة بدائل ذات فاعلية توفر للمجتمعات النامية والفقيرة ظروفًا حياتية أفضل مما هي عليه، ولقد اتخذت العديد من الحركات الخضراء المدافعة عن البيئة إرنست شوماخر أبًا روحيًا لها، فبعد وفاته نشأت جمعيتان تحملان اسمه وتنتهجان فلسفته؛ واحدة منهما في بريطانيا والأخرى في الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي إحدى المحاضرات التي ألقاها شوماخر، سأله أحد الحاضرين عن النصيحة التي يودّ تقديمها له انطلاقًا من رؤيته السياسية والاجتماعية،فأجابه:
“إنني لا أستطيع أن أحدّد للآخرين ماذا يفعلون، لكن إن كنت فاعلًا فإنني أقترح عليك أن تزرع شجرة”.
نعم، فلتزرع شجرة؛ ولو التقم صاحب القرن قرنه وقامت الساعة وفي يدِ أحدكم فسيلة فليغرسها.