الاقتصاد النقدي

هكذا تحدث الأشياء (2) | ظهور النقود السلعية

هذا المقال هو الجزء الثاني من سلسلة المقالات التي تتحدث عن قصة أحمد في الجزيرة المنعزلة التي لا نقود فيها. فإذا لم تكن قد قرأت الجزء الأول بعد؛ فننصحك بشدة أن تقرأه قبل أن تبدأ في قراءة هذا المقال

في اليوم التالي، والأب يشاهد التلفاز، جاء الابن مسرعًا وعينيه تلمعان:  

  • أبي، لقد أكملت كل واجباتي المدرسية، هلا أكملت حكاية أحمد كما وعدتني؟
  • حسنًا، اجلس لأكمل الحكاية (وهو يغلق جهاز التلفاز في حين تقترب الأم لتسمع الحكاية عن قرب هذه المرة).

أين تركنا بطل قصتنا؟ نعم! وهو يقترح على مجلس القبيلة حلًا لمشكلتهم.


“بعد أن حظي أحمد بانتباه الجميع بدأ في الحديث عن الحل الأول:

الطريقة الأولى لحل مشكلة “الحاجة إلى تزاوج صدفة الاحتياجات” يمكننا اختيار شيء ما على هذه الجزيرة وسنطلق عليه وصف (النقود)، وقبل أن أبين لكم هدفه، يجب أن أوضح لكم الخصائص التي يجب أن تتوفر فيه، وهي ثلاث:

الأولى: أن يكون مخزنًا للقيمة

 أن يكون هذا الشيء قيِّمًا. ويمكن أن يستمد قيمته هذه من أي شيء: من ندرته، من استخداماته، أو حتى لقيمة غير مادية نعطيها له. ثم أن يكون قادرًا على الحفاظ على هذه القيمة رغم مرور الوقت. فلا يجب أن يكون سهل الكسر كالبيض، ولا سهل التلف كالأسماك.

لكن، لاحظت أن نساء القبيلة يستخدمن الأصداف كنوع من الحلي، ويبدو أنكم تعطونها قيمةً كبيرة لتستعملوها كنوع من الزينة. الأصداف لا تبلى مع مرور الوقت وصعبة الكسر أيضًا، مما يجعلها لا تفقد قيمتها مع الوقت، وهذا يجعلها مخزنًا جيدًا للقيمة.

إن قراءةً بسيطة في تاريخ النقود تبين لنا أن المعادن الثمينة كالذهب والفضة استعملت مرارًا وتكرارًا في العديد من الحضارات كنوعٍ من النقود. وهذا لأنها ذات قيمة عالية لندرتها واستخداماتها الكثيرة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن خواصها الفيزيائية تمكنها من الحفاظ على قيمتها (إذا تم تخزينها بطريقة سليمة) لقرون عدة.

الثانية: أن يكون مقياسًا للقيمة

لكي تعمل الأصداف كنقود، يجب أن تمكننا من تحديد قيم كل ما ننتجه ونتبادله في هذه الجزيرة، بداية من ثماري وصولًا إلى أسماك الصياد. هل تذكرون مشكلتي مع الصياد؟ صراعنا الدائم حول كم ثمرة يجب أن أعطيها له مقابل كل سمكة؟ هذه المشكلة هي نتيجة لعدم وجود طريقة لتحديد القيمة التي تستحقها ثماري والقيمة التي تستحقها أسماكه، وبالتالي ما هي المبادلة العادلة.

يمكن للأصداف أن تحل هذه المشكلة أيضًا! حيث يمكننا استخدامها في التعبير عن قيم الثمار والأسماك، كل واحدة على حدة، فعوض أن يجيبني الصياد عندما أسأله عن قيمة سمكه بـ:

  • أربع ثمرات أو عشر قطع من الخشب، أو نصف أرنب! أو …

يمكنه أن يجيبني ببساطة:

  • صدفتان، سآخذ صدفتين عن كل سمكة.

طبعًا، لا زلنا نحتاج إلى التفاوض حول عدد الأصداف، فآخذ سمكتين مقابل ثلاثة أصداف. لكن التفاوض عن القيم سيكون أسهل بكثير إذا ما عبرنا عن قيمة كل ما نتبادله بعدد من الأصداف، مقارنة بالنظام الحالي الذي نستخدمه.

  • لكن ماذا إذا كان ما يريد أحدنا شراءه ضئيل القيمة؟ ماذا إذا أردت ثمرة واحدة منك. وأنت تبادل كل صدفة مقابل ثمرتين، فلن يمكننا أن نكسر الأصداف إلى جزأين لنعطيك نصف صدفة..!  – يقول أحد الحاضرين متعجبًا –
  • الأمر بسيط، يمكننا أن نجمع 3 أنواع من الأصداف؛ أصدافًا كبيرة الحجم، أصدافًا متوسطة الحجم، وأصدافَا صغيرة الحجم. بحيث تكون كل صدفة كبيرة بعشر أصداف متوسطة وكل صدفة متوسطة بعشر أصداف صغيرة. وبالتالي كل صدفة كبيرة بـ 100 صدفة صغيرة. ونتفق جميعًا على ذلك. بهذه الطريقة، تُستخدم الأصداف الكبيرة في التبادلات الكبيرة وتستخدم الأصداف الصغيرة في التبادلات الصغيرة. بينما تستخدم الأصداف المتوسطة في باقي التبادلات. وبالتالي عوض أن تعطيني نصف صدفة متوسطة يمكنك أن تعطيني 5 أصداف صغيرة.
إذا أحببنا مقارنة هذا النظام – نظام الأصداف كعملة – بنظام الأسعار النسبية الذي ذكرناه في الجزء الأول من هذه السلسلة، سنجد أمامنا فارقًا هائلاً. والفرق ليس فقط في تحول الأسعار من قيمة (نسبية/متغيرة) إلى قيمة (مطلقة/محددة). ولكن كذلك – وهو الأهم – في عدد تلك الأسعار المطلقة مقارنة بعدد الأسعار النسبية وبعدد السلع نفسها. فنظام العملة يعطي لكل سلعة سعرًا واحدًا واضحًا محددًا يمكن اعتماده وتتبع تغيره بسهولة، بينما في ظل التسعير النسبي – السابق – فعملية التسعير تعتبر فوضى حقيقية.
تأمل الجدول التالي
(هو نفس الجدول الذي استخدمناه في الجزء الأول، بالمناسبة):
أما عن التبادلات الضئيلة، فقد كان الناس يستخدمون معادن رخيصة كالنحاس لإتمامها. كما كانوا يستخدمون قطعًا مختلفة الأوزان في كل معدن. فتكون 3 فئات من القطع الذهبية، ثلاث فئات من القطع الفضية وفئة واحدة من القطع النحاسية مثلًا.

الثالثة: وسيلة للتبادل

إنها الخاصية الأهم، فالقيمة الذاتية للأصداف تكمن في قدرتها على الاحتفاظ بالقيمة واستعمالها كمعيار للقيمة وهو ما سيمكن الأصداف من حل المشكلة التي نعاني منها بشرط واحد سأذكره فيما بعد.

أما الطريقة التي ستحل بها المشكلة فستكون بأن أقوم كلما أردت مبادلة ثماري بسمكٍ بأمرين:

  • أن أبحث أولًا عمن يريد ثماري، ثم أقايضه إياها مقابل عدد من الأصداف.
  • أذهب إلى الصياد فأعطيه عددًا من الأصداف التي حصلت عليها مقابل سمكه.

بهذه الطريقة، لست بحاجة لأن يرغب الصياد في الحصول على ثماري في نفس الوقت الذي أرغب فيه في الحصول على سمكه. لكن يكفي أن يرغب أي أحد آخر في الحصول على ثماري مقابل الأصداف، أو أن يكون معي أصدافًا مدخرة حصلت عليها لقاء مبادلة ثماري في الأيام الماضية، لكي أحصل على السمك الذي أريده في أي وقت.

  • هذه هي الطريقة إذن – يرد قائد القبيلة – فما هو الشرط الذي يجب أن يتحقق؟

يجب أن يقبل الجميع بمبادلة الأصداف مقابل ما يريدون مبادلته. ففي المثال الذي ضربته يجب أن يتحقق أمران:

  • أن يقبل كل من يريد ثماري مبادلتها بالأصداف التي معه: وإلا فلن أجد طريقة لأحصل بها عليها. وهذا يستوجب انتشار الأصداف كمخزن للقيمة لدى الناس.
  • وأن يقبل الصياد مبادلة سمكه مقابل الأصداف التي معي: فحتى إذا لم يكن الصياد يريد الأصداف لذاتها، فهو يعلم أنه يستطيع أن يبادلها في أي وقت مقابل ما يحتاجه، لانتشار استخدامها بين الناس.

ببساطة، يجب على الجميع القبول بالأصداف كوسيلة للتبادل. يجب أن تسود الثقة بين جميع أفراد القبيلة في قدرة الأصداف على القيام بدورها في إتمام التبادلات.

هذه الخاصية الثالثة لا تعتمد على خصائص السلعة نفسها بقدر ما تعتمد على ” ثقة الجميع في قدرة هذه السلعة على لعب دورها كوسيط للتبادل”. فالسلعة التي تُستعمل كوسيط للتبادل (الأصداف/النقود) يجب أن تكون مقبولة عند الجميع وفي كل وقت، بحيث يثق الجميع في أنهم إذا أرادوا استعمالها لشراء سلعة أو لسداد دين فإن الطرف الآخر، بائعًا كان أم دائنًا، سيقبلها دون أدنى شك.
لا مثال يعبر عن هذا الدور أكثر من الوضع الذي كانت عليه بعض السجون أثناء الحرب العالمية الثانية. حيث أصبحت السجائر وسيطًا للتبادل بشكل مبهر. فحتى غير المدخنين كانوا يسعون للاحتفاظ بها، لا لاستخدامها بشكل شخصي، لكن لمبادلتها بأشياء أخرى داخل السجن.
وهذا يلقي الضوء على القيمة الحقيقية للأوراق النقدية التي في جيبك الآن. فحقيقة هذه الأوراق هي أنها مجرد أوراق لا قيمة لها في حد ذاتها، وإنما تستمد قيمتها من فرض الدولة استخدامها على الناس، واعتماد الناس لها كوسيلة للتبادل لثقتهم في سلطة الدولة، ورعاية الأنظمة الحاكمة لها (أي ضمان قيمتها بقوة واستقرار النظام الحاكم للدولة). فبعد الحرب العالمية الأولى كان الأطفال في ألمانيا يلهون برزم أوراق النقد من عملة المارك الألماني، وكانت أمهاتهم ترى أنها أفضل في التدفئة. حيث انهارت قيمة العملة مع انهيار النظام الحاكم، وانتهاء اعتماد الناس عليها كعملة. فلم تعد تساوي حتى قيمة الحبر الذي طُبِعَت به.

هكذا فقط، وبعد توفر الخصائص الثلاثة في الأصداف، يمكننا استخدامها في تسهيل تبادلاتنا وجعل حياتنا أكثر سهولة. فالصياد مثلًا لن يخاف مجددًا من فساد الأسماك إذا لم يبادلها بشيء يحتاجه. وهذا لأنه يستطيع مبادلتها مقابل الأصداف ثم استخدام الأصداف في شراء ما يريد أو تخزينها ليستعملها في يوم آخر، فعلى عكس السمك، فالأصداف لا تتلف عند تخزينها!

ومع الوقت، سيتذكر الصياد عدد الأسماك الذي يريدها الناس كل يوم. فيعدل من كمية الأسماك التي يصطادها كل يوم. كما يمكنه أيضًا ادِّخار بعض الأصداف ليستخدمها في الأيام الممطرة التي لا يستطيع الصيد فيها.

يطلق الاقتصاديون على هذا النوع من النقود “النقود السلعية” ويرون أن لها دورًا مهمًا جدًا في تطور الاقتصاد وتحسين معاش الناس. فآدم سميث مثلًا، اعتبر أن النقود السلعية كانت الوسيلة الأهم التي مكنت البشرية من الانتقال من اقتصاد البقاء المعتمد على توفير كل فرد لحاجاته الضرورية، إلى اقتصاد تبادل يميزه التخصص في الحرف والمهن وتقسيم العمل إلى مراحل متعددة.

نظر الحاضرون إلى بعضهم وعلى وجههم علامات الرضا. ثم قال قائد القبيلة بحماس:

  • إنها فكرة رائعة جدًا، من الغد سنقوم بجمع كل الأصداف الموجودة في الجزيرة، وتحديد أسعار مبدئية لكل سلعة ثم توزيع الأصداف على الجميع بشكل يناسب قيمة ما ينتجونه. وسأقوم شخصيًا بالإشراف على جمع الأصداف وتوزيعها.

أشار جميع الحاضرين بالموافقة، وشكروا أحمد على فكرته الرائعة، وبدأوا في تنفيذ النظام في اليوم التالي.

بعد انتهاء اليوم، فوجئ أحمد بأحد أفراد القبيلة يدعوه إلى اجتماع جديد. ذهب أحمد إلى مكان الاجتماع قلقًا ليجد المجلس منعقدًا كما كان بالأمس، وقائد القبيلة يقول له مبتسمًا:

  • أرى على وجهك علامات القلق، اهدأ، فلم ندعك إلا لنسمع منك الحل الثاني للمشكلة، أم أنك نسيت أنك قلت لنا أن للمشكلة حلان؟

نظر الأب إلى ساعته ثم قال:

  • لقد تأخر الوقت الآن، هيا إلى سريرك – موجهًا الكلام للابن –
  • مرة أخرى؟ (وعلى وجهه علامات عدم الرضا)
  • لقد حان موعد نومك يا بني، أما الحكاية فطويلة. لكن لا تقلق، سأكمل القصة غدًا إن التزمت باتفاقنا بالأمس.
  • حسنًا يا أبي، سأقوم بكل واجباتي المدرسية غدًا قبل ان تكمل لنا الحكاية، تصبحون على خير.

يرد الأب والأم في نفس الوقت:

  • تصبح على خير يا بني.

في المقال القادم، يحكي لنا الأب عن البديل الممكن للمقايضة، والذي يجهله حتى بعض المتخصصين. فانتظرونا!

 

أحمد كشيكش

أحمد كشيكش - مؤسس الموقع ومسؤول فريق المحتوى التعليمي : مسشتار مستقل وباحث اقتصادي. حصل على الماجيستير في الاقتصاد القياسي من جامعة محمد الخامس، الرباط وحاصل على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد من نفس الجامعة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى