دخل الطفل ذو الثمان سنوات إلى المطبخ بخطى مترددة ثم قال لأمه المنشغلة بتحضير وجبة العشاء بصوت لا يكاد يُسمَع من شدة توتره.
- أمي، أمي… هل يمكنني أن أسألك سؤالًا؟
ردت الأم – كعادتها وهي تستعد لأحد أسئلة الطفل التي تعودت على التعامل معها -:
- أكيد، ما سؤالك؟
احمرَّ وجه الصبي خجلًا وهو يقول بصوت متقطع:
- أريد أن أعرف… أعني… كيف تُخلق النقود؟
توقفت الأم عما كانت تقوم به وقد احمرَّ وجهها خجلًا، ودار الحوار التالي:
- امممم … لا زلتَ صغيرًا على معرفة هذه الأشياء!
- لكن… لماذا؟
- همم … لأنك… ولأنه… )بلهجة غاضبة(… اذهب واسأل أباك!
ذهب الطفل لأبيه وسأله نفس السؤال… حدَّق الأب في الفراغ لبرهة وهو يفكر ثم قال:
- اجلس، سأحكي لكَ حكاية.
- حكاية خلق النقود؟ – رد الطفل بحماس شديد –
- نعم، حكاية خلق النقود.
- هيييه (وقفت الأم من بعيد تستمع أيضًا لما سيقوله الأب لحساسية الموضوع)
يستيقظ أحمد وهو يشعر بألم شديد في جسمه كله، يلتفت يمينًا ويسارًا فيجد نفسه في شاطئ في مكان منعزل، يحاول تذكر ما حدث فيشعر بصداع شديد ثم يذكر مشاهد متقطعة وهو في الطائرة… إعلان الربان عن توقف أحد المحركات.. أصوات صراخ الناس ودعائهم.. يحاول بصعوبة فهم ما حدث فيصل إلى استنتاج مرعب: لقد سقطت الطائرة التي كان يركبها في رحلة العمل الأخيرة، وقد حملته الأمواج إلى هذا المكان المنعزل بعد ارتطامها بالبحر. فما العمل يا ترى؟
بعد ساعاتٍ، خفَّ الصداع والألم قليلًا، وبدأ أحمد في استيعاب الموقف. هو الآن في جزيرةٍ منعزلةٍ، لا أحد برفقته، وبالتالي يجب أن يجدَ طريقةً كي يبقى على قيد الحياة حتى تأتي النجدة.
بعد أيام، كان أحمد قد وجد عين ماءٍ عذبةٍ صالحةٍ للشرب، وبعض الأشجار كثيرة الثمر، وكهفًا صغيرًا ينام فيه. أحمد الآن يلبي كل حاجاته معتمدًا على نفسه فقط!
في أحد الأيام، سمع أحمد صوتًا غريبًا لشيء يتحرك بين الحشائش. حمل حجرًا يحتمي به إذا كان الصوت مصدره حيوانًا مفترسًا (والظاهر أن مكوثك وحيدًا في جزيرة نائية يؤثر بالسلب على قدراتك العقلية. فكيف لحجرٍ أن يحميه من هجمة دب مفترس مثلًا!؟). اقترب من مصدر الصوت وضربات قلبه تتعالى بعد كل لحظةٍ ترقبًا وخوفًا، وحينها كانت المفاجأة؛ إنه شخصٌ آخر!
نعم، فلم يكن أحمد الشخص الوحيد على الجزيرة. فقد كانت هناك قبيلة بدائية مكونة من حوالي مئة شخص تسكن في مركز الجزيرة. تحدث أحمد مع الشخص لبعض الوقت، فاكتشف أن اسمه خالد، وأنهم يرحبون به للعيش مع قبيلتهم في مساكنهم البسيطة إلى أن يجد وسيلة تعيده إلى موطنه.
كانت القبيلة تلبي حاجاتها بطريقةٍ تقترب من حياتنا اليوم. ففي القبيلة متخصصون في الزراعة يزرعون بعض المحاصيل كالقمح والخضر(مزارعون)، ومتخصصون في صيد الأسماك، وصيد الحيوانات، وتحويل جلود الحيوانات إلى ملابس (كالخياطين الذين نعرفهم)، وآخرون في جمع الحشائش اليابسة وأغصان الأشجار الجافة للتدفئة. كان أعضاء القبيلة يقومون بما يشبه المهن هذه الأيام، كل واحدٍ ينمي مهارة ما تساعده على العيش ليصبح متخصصًا فيها.
وفي نهاية كل يوم كان الجميع يجتمع في ساحة كبيرة ويتبادلون منتجاتهم فيما بينهم. فإذا احتاج صياد السمك بعض الحطب للتدفئة يبحث عن الحطاب ويعرض عليه أن يبادل بعضًا من السمك مقابل بعض الحطب.
بعد مرور أسبوعين، اكتشف أحمد مشكلة كبيرة يعاني منها أفراد هذه القبيلة، فذهب إلى قائد القبيلة ليعرض عليه المشكلة وحلها. فجمع قائد القبيلة أكثر الناس المعروفين بالحكمة فيها وكوَّنوا مجلسًا يسمع المشكلة التي يريد أحمد عرضها وليقيِّموا الحلَّ الذي يقترحه أحمد. على أساس أن يكون اجتماع المجلس مساءً.
عندما حان موعد المجلس، شكر أحمد الحاضرين على استقباله وعلى اهتمامهم بما يريد أن يعرضه عليهم ثم قال:
- الطريقة التي تقومون من خلالها بمبادلة سلعكم غير فعَّالة على الإطلاق. فالمقايضة ينتج عنها مشكلتان أساسيتان:
المشكلة الأولى؛ أنه في كل مرة أريد فيها مبادلة الثمار التي أقطفها مقابل سلعة أخرى يجب أن يريد من يملك هذه السلعة الثمار التي لدي كمقابل. فإذا أردت أن أبادل ثماري الزائدة عن حاجتي مقابل الأسماك فيجب أن يريد الصياد ثماري. فإذا كان لا يحب أكل ثمار الأشجار الموجودة في الجزيرة فسيرفض مقايضة بعض أسماكه مقابل ثماري. وبالتالي يجب عليَّ أن أبحث عن صياد سمك آخر يريد أن يبادل أسماكه بثماري. وفي بعض الأحيان قد لا أجد صيادًا واحدًا يريد ثماري. فلا أستطيع أن أحصل على السمك الذي أريده.
المقايضة طريقة غير فعَّالة، لأنَّ إتمام عملية المقايضة يستوجب أن يريد كل واحد من الطرفين ما يملكه الآخر. وإذا لم يتحقق هذا الشرط، فلا يمكن لعملية المقايضة أن تتم. وهذه فعلًا مشكلة كبيرة
(ينظر الحاضرون إلى بعضهم وهم يهزون رؤوسهم بطريقة توحي بأن المشكلة موجودة فعلًا وأنهم يعانون منها كل يوم)
يكمل أحمد حديثه قائلًا:
أما المشكلة الثانية؛ فهي أنه حتى إذا وجدت صياد سمك يحب الثمار التي معي ويريد مبادلتها ببعض سمكه. فإنه من المرهق جدًا القيام بتحديد قيمة الثمار والسمك. فكم ثمرة يجب أن أعطيها الصياد مقابل كل سمكة؟.. سنقضي وقتًا طويلًا في تحديد الكمية التي ستتم مقايضتها من كل سلعة.. وهذا أمر مرهق.
فلا طريقة لدينا تُمكِّنُنا من الاتفاق على قيم السلع الذي نريد مقايضتها. فيجب علينا تحديد قيم السلع مع كل عملية مقايضة، وطبعًا القيم التي يُقدِّرُها كل واحد منا للسلعة هي قيم شخصية وغير موضوعية. فأنا أعلم الجهد الكبير الذي يتطلبه جمع الثمار فأعطيها قيمة كبيرة. لكن البعض يرى أن جمع الثمار عملية سهلة للغاية – وهي ليست كذلك – فيعطون ثماري قيمة قليلة جدًا. وهنا يحدث الخلاف الذي أعاني منه كل مرة أريد فيها القيام بالمقايضة.
(وعلى نفس المنوال، ينظر الحاضرون إلى بعضهم وهم يهزون رؤوسهم بطريقة توحي بأنهم يعانون أيضًا من وجود هذه المشكلة كل يوم)
ينظر قائد القبيلة إلى من حوله ثم يقول:
- فعلًا هذه المشاكل التي ذكرتها موجودة، لكن لا يوجد بديل أفضل لعملية المقايضة، ونحن مضطرون إلى تحمل مساوئها.. فهل لديك حل؟ – موجهًا كلامه إلى أحمد –
يرد أحمد قائلًا:
لا، ليس لدي حل واحد، بل لدي حلان!
تبدو على وجه قائد القبيلة الدهشة، ويرد بلهفة شديدة:
- حلان…!؟ إلينا بهما فنحن بأمسِّ الحاجة إلى ذلك”.
لقد تأخر الوقت جدًا … حان موعد نومك يا بني.
- لكنك لم تكمل القصة يا أبي!
- سأكملها غدًا بإذن الله، شريطة أن تحلَّ واجباتك المدرسة أولًا
- حسنًا يا أبي )وقد ارتسم على وجهه الحزن(
في المقال القادم، نكمل معًا حكاية والد أحمد. لنحاول معًا كسر أحد أكبر التابوهات عند المتخصصين في الاقتصاد النقدي. ألا وهو؛ كيف تُخلق النقود؟