المقايضة : الحاجة أم الاختراع
على مدى التاريخ، سعى الإنسان سعيًا حثيثًا لإشباع رغباته التي لا تنتهي، ومن أجل هذه الغاية حاول الإنسان اكتشاف طرق جديدة لكي يستطيع تحسين أسلوب عيشه، فقد تكون المجتمعات والدول بالشكل الذي نعرفه اليوم، فكانت السمة السائدة أن ينتج كل فرد ما يحتاجه ويريده فرديًا وفي جماعات صغيرة – الصيد و الزراعة – فكان الاكتفاء الذاتي أهم ملامح الاقتصاد البدائي حيث أن الفرد يتولى مسئولية إدارة موارده.
ولكن مع اتساع نطاق العلاقات بين البشر، و تطور حاجياتهم أدرك الإنسان أنه غير قادر على توفير كل ما يحتاجه بمفرده في وقت قصير، ومن هنا بدأ الإنسان تدريجيًا في تخصيص وقته لنشاط محدد يقوم فيه بانتاج صنف محدد من السلع يلبي حاجته منها ثم يبادل ما يفيض عن حاجته لقاء ما يحتاجه هو و ينتجه غيره.
مثال: صاحب القوة البدنية الكبيرة يحترف الصيد، فيقوم باصطياد الحيوانات ليلبي حاجته من لحومها ثم يبادل ما يفيض عن حاجته مع المزارع الذي بدوره يحترف الزراعة فيلبي حاجته من الخضر والفواكه ثم يبادل ما يفيض عنها لقاء ما يحتاجه من اللحوم، و بذلك يحصل كل من الصياد و المزارع على حاجتهم من الخضر والفواكه واللحوم بدون أي يضطر الصياد للزراعة ولا المزارع للصيد.
هذا النظام قد يبدو بسيطًا في ظاهره؛ لكنه كان حجر أساس في النظام الاقتصادي قديما، حيث مكن البشر من تلبية عدد أكبر من حاجاتهم ورغباتهم بمجهود أقل.
دعونا نطلق على هذا النظام: نظام المقايضة
أسباب سقوط النظام
لكن مع مرور الوقت، اتضح أن هذا النظام ليس مثاليًا، و بدأت تطفو على السطح عدة عيوب سنوضحها من خلال بعض الأمثلة :
أولا: صعوبة توافر التوافق بين رغبات طرفي التبادل
لنعتبر أن الاقتصاد يعتمد على نظام المقايضة ثم لنفرض أنك ذهبت إلى السوق وبحوزتك بعضًا من التمر رغبة منك في مبادلته ببعض اللحم، المشكلة في هذه الحالة أنه يجب أن تجد صيادًا يرغب في الحصول على التمر الذي معك، فماذا سيحدث إذا لم يرد أحد مبادلتك اللحم الذي معه لقاء التمر الذي معك لأنه سيء الجودة أو ببساطة لأنه لا يريد التمر؟
صعوبة تخزين أغلب السلع و حفظ قيمتها
قلنا سابقا أن الفرد كان يستهلك الجزء الذي يحتاجه ثم يحتفظ بالمتبقي لكي يقوم بمبادلته، هنا تظهر مشكلة حقيقية، وهي مشكلة تخزين هذا الفائض و حفظ قيمته، فأين سيخزن المزارع فائض المحصول؟ و تحت أي ظروف؟
فمن المعروف أن أغلب المواد الغذائية من لحوم وخضر وفواكه معرضة للتلف والفساد مع الوقت، وبالتالي تنقص جودتها و قيمتها، ففي المثال السابق يمكن أن يكون سبب انخفاض جودة التمر هو أنه تم تخزينه لفترة طويلة في ظروف غير مناسبة.
عدم وجود وحدة قياس
لنفترض أنك وجدت من يقبل شراء التمر الذي معك مقابل بعض اللحم، ما الذي سيحدد كمية التمر الذي يجب أن تعطيها للصياد لقاء كيلوغرام واحد من اللحم؟ ما هو مقياس قيمة التمر الذي معك و اللحم الذي في حوزة الصياد؟
البحث عن البديل
كل هذه الصعوبات و غيرها دفعت الإنسان إلى التفكير في حل يقيه من مشاكل نظام المقايضة الكثيرة، فكان الحل الأنجح وقتها هو إيجاد سلعة ما تتغلب على العيب الأول حيث يقبلها الجميع مقابل ما ينتجونه و تتجاوز العيب الثاني حيث لا تكون معرضة للفساد و تدهور القيمة مع مرور الوقت، وأخيرًا تحل العيب الثالث حيث تكون وحدة لقياس قيمة كل السلع الأخرى.
بعد تفكير عميق جاء الحل العبقري: السلعة الوسيطة!
هي سلعة كغيرها من السلع، تستمد قيمتها من كونها نادرة تستلزم مجهودًا إضافيًا للحصول عليها ، لا تفسد مع مرور الوقت أي أنها تحتفظ بالقيمة لتكون بذلك وحدة قياس لغيرها من السلع.
فما هي هذه السلعة يا ترى؟
في الحقيقة وفي أماكن مختلفة، استعمل البشر سلعًا عديدةً لتقوم بهذا الدور الاقتصادي المهم، فابتداءً من الملح والسكر والشاي مرورًا بأنواع من المحار والقواقع في أماكن كإفريقيا والهند انتهاءً بالأرز في اليابان والروم – نوع من المشروبات – في انجلترا.
كما أنه ومن أبرز هذه السلع الوسيطة والتي ترتبط بنا ما تم استخدامه في عصر النبي – صلى الله عليه وسلم – في المدينة وكانت أربع سلع وهي: القمح والشعير والملح والتمر؛ نظرًا لما كانت تلاقيه هذه السلع من قبول عام، كذلك نظرًا لإقرار النبي – صلى الله عليه وسلم – بوجوب الزكاة بهذه السلع.
لكن، رغم المشاكل التي حلتها بعض هذه السلع بقيت مشكلتين أساسيتين
ضعف القيمة الذاتية للسلع
لنفترض أنك تريد أن تشتري بيتًا، كم سيلزمك لذلك؟ كم كيسًا من القمح؟ الأمر صعب، أليس كذلك؟ تحتاج لشراء شيء ذا قيمة كبيرة أن تكون السلعة الوسيطة ذات قيمة كبيرة.
عدم قابليتها للتجزيء
ماذا إذا أردت أن تشتري حبة فاكهة قيمتها نصف قوقعة؟ الأمر ليس بسيطًا على الإطلاق كما ترون.
إذن نحن أمام مشكلتين أساسيتين يستلزم حلهما: سلعة تكون ذات قيمة ذاتية كبيرة؛ لنستطيع أن نشتري بها سلعًا قيمة و في نفس الوقت أن تكون قابلة للتجزيء إلى أجزاء بالغة الصغر؛ لكي نستطيع شراء السلع ذات القيمة الصغيرة، فما هي هذه السلعة يا ترى؟
هذا ما سنعرفه في المقال القادم … انتظرونا