رجل الاقتصاد ليس كاتبا كتشارلز ديكنز، ولا سياسيا كروزفلت، إنه أداة، آلة، لا قيمة له بدون الحقائق والأرقام والإحصائيات، أقصى ما يستطيع أن يفعله هو أن يحدد العلاقة بين حقيقة وأخرى، بين رقم وآخر، أمّا أن تجعل الأرقام تقول شيئا دون آخر، فذلك شأن الحكّام ورجال السياسة.
ــــــــــ الطيب صالح (أديب وروائي سوداني عالمي)
في العام 1931م، تعرضت شركة “بيبسي كولا” للإفلاس للمرة الثانية خلال 12 عاما ووصل بها الحال أنها عرضت نفسها لمنافستها التقليدية “شركة كوكاكولا”، والتي أعرضت عن ذلك لما أحسته من عمق المشكلة التي تواجهها شركة”بيبسي”وعلى الرغم من هذه الحالة المأساوية والتوقعات السلبية لمستقبل الشركة، إلا أن الشركة نجحت في العام 1934م في الخروج من حالة الإفلاس، بل وحققت أرباح في حدود 2.1 مليون دولار في العام 1934 والتي سرعان ما ارتفعت إلى 4.2 مليون دولار في العام 1936م، ومنها استمرت مسيرة الشركة القوية حتى اليوم. ولكن لحظة، ما الذي حدث بين العامي 1931 و1934 وأدى لهذا التغيير المفاجئ في مستقبل شركة “بيبسي كولا”؟
في تلك الفترة كانت عبوة المشروبات الغازية التقليدية تأتي بحجم موحد (6 أونصات) وتباع بسعر 10 سنتات للعبوة الواحدة، ولكن شركة بيبسي كانت قد قامت بعقد صفقة حصلت بموجبها على كمية كبيرة من زجاجات البيرة ذات سعة (12 أونصة) والتي فكرت في استخدمها لطرح مقاس جديد من زجاجات البيبسي وبيعها بسعر 20 سنت، ولكن هذه المحاولة لم تحقق أي نجاح، وفي ظل الظروف الصعبة للشركة فكر مديرها التنفيذي في طرح العبوات الكبيرة بنفس سعر العبوة التقليدية (فماذا سوف يخسر على أي حال) وقد كان هذا القرار هو نقطة التحول في مستقبل الشركة، فقد أثر العرض الجديد حماسة الجماهير وفي ظل الكساد الذي كان سائدا في الولايات المتحدة في تلك الفترة أقبل العملاء بصورة كبيرة على منتجات شركة “بيبسي” والتي سرعان ما تعافت من أزمتها و بدأت في تحقيق الأرباح مرة أخرى.
قد تبدو هذه القصة عادية و خصوصًا أننا قد تعرضنا في مقال سابق عن قانون العرض و الطلب وذكرنا أنه في حالة انخفاض سعر السلع يزداد الطلب عليها والعكس صحيح، ولكن ما يبينه هذا المثال هو جزئية مهمة تتعلق بهذا القانون وهو مفهوم “المرونة السعرية للعرض والطلب”، فعلى الرغم من صحة القانون العام للعرض و الطلب إلا أن درجة التغيير التي تحدث في مستويات العرض والطلب مع تغيير السعر ليست ثابتة لكل المنتجات. ماذا يعني هذا؟
في القصة أعلاه قامت شركة “بيبسي” بمضاعفة حجم العبوة مع المحافظة على نفس السعر (أي كأنها خفضت سعر نفس الكمية من الكولا للنصف؛ فبعد أن كنت تشتري ست أونصات بعشر سنتات أصبحت تشتريها بخمسة فقط ) وهذا لم يؤدِ فقط لمضاعفة حجم الطلب للضعف فقط ولكن لأضعاف كثيرة وما نعبر عنه اقتصاديا بأن مشروب الكولا ذو مرونة سعرية عالية والميزة التي تتمتع بها معظم المنتجات الاستهلاكية فأي تغيير في السعر (ولو كان طفيفا) صعودًا أو هبوطًا يؤدي الى تغيير كبير في حجم الطلب على هذه السلع.
(كما حدث في قصتنا مع البيبسي)
المرونة السعرية المنخفضة
ما الذي يجعل بعض السلع لها مرونة سعرية مرتفعة؟
هناك عاملان:
- الأول: أن يكون سعرها منخفضًا؛ مما يجعل تأثير شراء كمية إضافية منها قليل على ميزانيات الأفراد.
- الثاني: أنها تحقق إشباعا كبيرا لأكثر رغبات الإنسان أهمية؛ وهي رغبة الإستهلاك.
وبهذا تحقق هذه السلع منفعة كبيرة للمستهلكين مقارنة بسعرها المنخفض مما يدفع المستهلكين لزيادة الكمية المطلوبة منها إذا إنخفض سعرها.
المرونة السعرية المرتفعة
على عكس السلع الإستهلاكية هناك نوع من السلع يتميز بمرونة سعرية منخفضة، ماذا يعني ذلك؟
هل تتذكر آخر مرة حدث فيها ارتفاع في سعر الخبز؟ ما مدى تأثير ذلك على استهلاكك من الخبز، وهل قررت عندها تناول الحلوى بدلا من الخبز؟
حدث هذا ببساطة لأن الناس لا تستطيع الاستغناء عن الخبز؛ لأنه سلعة أساسية!
إذن، هل عرفت الآن لماذا تحرص الحكومات على فرض ضرائب ورسوم على السلع الاستهلاكية المستوردة لدعم البدائل المحلية؟ ولماذا تتأثر بعض الشركات المنتجة لهذه السلع بتقلب أسعار منتجاتها بصورة أكبر عن غيرها من الشركات. ولكن، هل فكرت قبلًا لماذا ترتفع أسعار المأكولات الموجودة في ثلاجات الفنادق بهذه الصورة الكبيرة مقارنة بسعرها في السوق؟ ولماذا تباع أكياس الفشار بثلاثة أضعاف سعرها في السينما مقارنة بالمحلات العادية؟ مهلا هذا موضوع آخر نناقشه في مقال قادم بإذن الله.