من المؤكد أنكم قد أصبحتم على إطلاع بمعنى الناتج المحلي الإجمالي بعد قراءتكم المقال السابق عن النمو الاقتصادي، إذن دعونا نُكمل حديثنا عنه بشكل أكثر تفصيلًا.
من المعروف أن الناتج المحلي الإجمالي
يتم التعبير عنه انطلاقًا من قيمته النقدية للسلع والخدمات التي تم إنتاجها خلال السنة في اقتصاد معين. فالقول بأن الناتج المحلي لدولة ما خلال السنة السابقة هو مليار دولارٍ؛ يعني ببساطة أن اقتصاد تلك الدولة قد أنتج سلعًا وخدمات بقيمة مليار دولار.
فإذا كان من السهل أن نقول أن مصنع أحذية أنتج ألف حذاءٍ في السنة السابقة، فالأمر يصبح أصعب إذا كان المصنع ينتج أحذية وأحزمة جلدية ومحافظ نقود، فنقول أن الناتج المحلى الإجمالي للمصنع هو ١٠٠٠ حذاء و٢٠٠٠ حزام جلدي و٥٠٠ محفظة نقود!
فماذا إذا كان المصنع ينتج عشرة أنواع من السلع؟ كيف سنعبر عن ناتجه المحلي؟ وماذا عن الناتج الإجمالي لشركة لها ١٠ مصانع ينتج كل مصنع منها ١٠ سلع، كيف سنعبر عن الناتج المحلي الإجمالي لهذه الشركة؟
الأمر شبه مستحيل أليس كذلك؟
إذن ماذا عن اقتصاد يحوي آلاف المصانع والشركات؟
من هنا جاءت ضرورة التعبير عن الناتج المحلي الإجمالي بقيمته النقدية للتبسيط من جهة وللمقارنة بين ناتج مختلف الدول من جهة أخرى.
ولكن…
لقد حل استخدام القيمة النقدية في حساب الناتج الإجمالي، لكنه سبَّبَّ مشكلة أخرى؛ تلك المشكلة التي تأتي دائمًا مع النقود ألا وهي مشكلة تأثير التضخم!
لكن كيف يؤثر التضخم على طريقتنا لحساب ناتج اقتصاداتنا وبالتالي معدل نموها؟
لنتخيل أن هناك قيمتين للناتج الإجمالي، قيمة لا يؤثر فيها التضخم، وقيمة يؤثر فيها هذا الأخير، ولنسمي الأول بالناتج الجمالي الحقيقي (لأنه يعكس حقيقة إنتاج الدولة) والثاني بالناتج الحقيقي الاسمي (يمكن أن نعتبر سبب تسميته هذه بأنه لا يأخذ من المفهوم الذي شرحناه في المقال السابق إلا الاسم) … فما الفرق بينهما؟
الناتج الإجمالي الاسمي، هو ما بدأنا به المقال، وهو القيمة النقدية لمجموع السلع والخدمات التي تم إنتاجها في اقتصاد دولة خلال سنة واحدة، حيث يتم ضرب كل سلعة أو خدمة تم إنتاجها خلال السنة في سعرها عند البيع، ثم يتم جمع قيم هذه السلع لتعطينا قيمة الناتج المحلي الإجمالي الاسمي.
لكن ما علاقة كل هذا بالتضخم؟!
الشيطان يكمن في التفاصيل … الوجه الآخر لـ الناتج المحلي الإجمالي
تخيل معي أن هناك اقتصاد ما ينتج منتجُا واحدًا فقط ألا وهو السيارات، ويوضح الجدول التالي تغير كمية الإنتاج (عدد السيارات) والأسعار (ثمن السيارة)، والناتج المحلي الإجمالي الاسمي (الناتج الاسمي)، على مدار خمس سنوات.
لقد كان عدد السيارات التي تم إنتاجها في ٢٠١٠ هو ١٠ سيارات، أما في ٢٠١١ فقد أصبح … مهلًا … ! لم يزد إنتاج الاقتصاد الحقيقي! فما الذي تغير إذن؟
يبدو أن الأمر قد اتضح الآن، فالناتج المحلي كما حسبناه سابقًا لا يُعبِر دائمًا عن زيادة الإنتاج، بل قد تكون الزيادة فيه سببها زيادة الأسعار، أو ما نسميه بالتضخم!
لذا فالزيادة في الناتج المحلي الإجمالي (الإسمي) لا تعني دائمًا زيادة الإنتاج وبالتالي النمو الاقتصادي، بل إن هذه الزيادة قد تكون غير حقيقية بحيث أن مصدرها هو التضخم كما رأينا في المثال السابق.
ما العمل إذن؟
و لذا سنوضح الأمر كما يلي:
كما يتضح من الجدول السابق فإنه في عام ٢٠١٠ كان سعر السيارة آنذاك ١٠٠٠٠ وقيمة الناتج المحلى الإجمالي تساوى ١٠٠٠٠٠، فإذا اعتبرنا هذه السنة كسنة الأساس؛ أي أن سعر السيارة في هذه السنة هو السعر المرجعي الذي نقارن به بين السنوات المختلفة، فسنجد أنه في سنة ٢٠١١ قيمة الناتج المحلى الإجمالي الحقيقي تساوى ١٠٠٠٠٠ أيضًا.
كيف ذلك؟
أولاً: عند حساب الناتج الإجمالي يختار الاقتصاديون سنة يسمونها سنة الأساس، عند هذه السنة يقوم الاقتصاديون بتسجيل أسعار كل السلع ويقيمون الناتج الإجمالي لكل السنوات اللاحقة بأسعار السنة الأساس.
لنعد إلى مثالنا أعلاه لنفهم الأمر بشكل أكبر، ولنعتبر أن السنة الأساس هنا هي ٢٠١٠، ولنُسجل سعر السيارة الواحدة والذي هو ١٠٠٠٠، أما في السنوات اللاحقة سنستخدم هذا السعر وفقط لحساب الناتج المحلي الإجمالي.
فإذا كان الناتج الإجمالي المحلي لسنة ٢٠١٠ هو ناتج ضرب عدد السيارات التي تم إنتاجها خلال السنة في سعرها عند عرضها للبيع حسب العملية ١٠ × ١٠٠٠٠ = ١٠٠٠٠٠، فنجد أن الناتج الإجمالي للسنوات اللاحقة سيتغير، بحيث لا يتم ضرب عدد السيارات المُنتجة كل سنة في سعرها خلال نفس السنة، ولكن نستخدم سعر السنة الأساس، ليصبح الجدول أعلاه على هذا الشكل:
وبالتالي إذا قارنَّا بين عامي ٢٠١٠ و٢٠١١ فسنجد أنهما متساويان، وذلك لأن عدد السيارات المُنْتَجَة لم يزد، كما أننا قد ثبتنا السعر أيضًا.
ولمعرفة الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي سنة ٢٠١٢ سنقوم بنفس العملية وسيكون الناتج هو ١٢٠٠٠٠، وبالتالي سيكون التغير الحقيقي الحاصل بين عامي ٢٠١٠ و٢٠١٢ هو ٢٠٠٠٠ فقط وليس ٤٤٠٠٠، كما يتضح من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي وهكذا … ومن هنا جاءت تسمية هذا الناتج الإجمالي بالناتج المحلي الإجمالي الحقيقي.
بحيث أنه من أجل معرفة القيمة الحقيقية التي تغيرت بها كمية المنتجات يجب أن نحذف أي تغير على مستوى الأسعار، ونستخدم سعرًا ثابتًا من سنة معينة (سنة الأساس). أي أنه عند استخدام مصطلح الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي فإن ذلك يدل على أننا قد قمنا بإقصاء تغير الأسعار.
خاتمة
إن الناتج المحلي الإجمالي يُعَد من أهم المؤشرات الاقتصادية؛ حيث يستخدم في المقارنة بين اقتصادات الدول المختلفة وأيضًا يُستخدم كمقياس للنمو الاقتصادي، لكن لكي يؤتي استخدامه كمقياس ثماره لابد من أن يُظهر لنا قيمًا حقيقية وإلا سيكون مؤشرًا زائفًا.
لذا فلا تَدَعُوا أحدًا يخدعكم بأرقام زائفة لا تُعبر عن الواقع الاقتصادي لبلدانكم.