مقدمة
وأنا أقوم بوضع الأهداف التي آمل تحقيقها هذا العام في مذكرتي الصغيرة، تذكرت العام الماضي وأنا أقوم بالشيء نفسه، الحقيقة أنني حققت تقدمًا لا بأس به في بعض الجوانب، فأنا لم أعد أسامة العام الماضي نفسه، لقد درست، تعلمت و تطورت.
الحقيقة أن لائحة الأهداف التي أضعها بداية كل عام وأعيد مراجعتها في نهايته هي وسيلة جيدة لقياس تقدمي في العديد من المجالات، فمن خلالها أستطيع أن أقيس مدى نجاحي في المجال الشخصي، العلمي، والعملي، عملية التقييم هذه مهمة جدًا لأي شخص و لأي شركة، بل لأي دولة حتى!
الاقتصاد الكلي يدرس الدولة كشخص؛ حيث يُقيّم أداءها في المجال الاقتصادي عبر عدة مقاييس اقتصادية تقيس أداء الاقتصاد في المجالات الاقتصادية كالدخل، الإنتاج، الاستهلاك و الاستثمار ..
في مقالنا عن النشاط الاقتصادي اعتبرنا الدولة فاعلًا اقتصاديًا يقوم بالنشاط الاقتصادي كغيره من الفاعلين، ومن هذا المنطلق فمن الطبيعي أن تكون لها أهداف تريد تحقيقها في إطار ما يسمى “بالسياسة الاقتصادية”.
“السياسة الاقتصادية” ببساطة: هي كل ما تفعله الدولة لتحقيق أهدافها في المجال الاقتصادي.
لكن ما هي هذه الأهداف؟
للدولة أربعة أهداف كبرى تسعى لتحقيقها في أربعة مجالات: النمو الاقتصادي، التضخم، البطالة، والتجارة الخارجية.
لذا؛ ففي تقديمنا للاقتصاد الكلي سنتطرق لكل هذه المواضيع على حدة شرحًا و تفصيلًا، وفي هذا المقال سنتطرق لأول هدف للسلطة في أي دولة؛ ألا وهو تحقيق النمو الاقتصادي.
أما بعد
“النمو الاقتصادي” … شيء يبعث على التفاؤل، أليس كذلك؟
النمو الاقتصادي غالبًا ما يرتبط في أذهان الناس بالرفاهية، فكيف لا يكون النمو أمرًا جيدا؟
فتحقيق معدل نمو مرتفع معناه أن الاقتصاد يتحسن، نسمع هذا الخطاب في التلفاز ونقرأه في الجرائد، لكن هل هذا صحيح دائما؟
لنجب على هذا السؤال علينا أولًا أن نُعرِّف النمو الاقتصادي وأهميته والعوامل التي تساهم فيه، ثم نتعرف على طريقة قياسه، وهذا ما سوف نقوم به في المقالات القادمة.
تعريف النمو الاقتصادي
أول سؤال قد يتبادر إلى ذهنك حول هذا الموضوع هو تعريف ما يسميه الاقتصاديون بـ”النمو”، ببساطة، النمو: هو الزيادة بالنسبة لاقتصاد دولة ما، فالنمو هو الزيادة (أو النقصان) في كمية السلع و الخدمات التي يتم إنتاجها من طرف الفاعلين الاقتصاديين خلال مدة زمنية معينة (غالبًا يُقصد بالنمو الاقتصادي، النمو الحاصل خلال سنة واحدة)
لقد حقق المصنع زيادة في الإنتاج؛ بأن قام بإنتاج 200 حذاءٍ إضافي مقارنة بالسنة الماضية، بالتالي فالنسبة التي نمى بها إنتاج المصنع هي حوالي 20 بالمائة.
في الحقيقة، الاقتصاد لا يحتوي على مصنع واحد ينتج سلعة واحدة، بل في كل اقتصاد يوجد الالآف المؤلفة من المنتجين الذين ينتجون عددًا كبيرًا جدًا من السلع والخدمات.
لكن المبدأ هو نفسه، فالنمو الاقتصادي هو الزيادة في السلع والخدمات المنتجة في اقتصاد ما مقارنة بإنتاج السنة السابقة.
لماذا يجب أن نعتبر أن النمو الاقتصادي مهم؟
تحدثنا سابقًا عن المشكلة الاقتصادية الأولى ألا وهي “الندرة” ، وكما ذكرنا من قبل، المشكلة الأساسية التي يعاني منها البشر؛ هي أن حاجاتهم ورغباتهم أكبر من الموارد الاقتصادية المتاحة، وهذا ما يضعهم أمام مشكلة وجوب اتخاذ قرارات اقتصادية صعبة، وهنا تظهر إحدى أكبر القضايا التي يدرسها الاقتصاد ألا وهي “الاختيار” .
لنأخذ مثالًا بسيطًا … قصة مثيرة كالعادة
هل يستطيع أحمد أن يلبي كل حاجاته ورغباته؟ …… بالطبع لا.
فما الحل إذن؟ هناك ثلاثة خيارات فقط لا غير:
- الأول: إما أن يقلل رغباته بأن يتخلى عن بعض أو كل الكماليات
- الثاني: وإما أن يستخدم موارده المالية بشكل أفضل
- الثالث: وإما أن يعمل أكثر على ورشته؛ لكي ينتج أكثر وبالتالي يزداد دخله.
فما هي الخيارات الموجودة؟
هي نفسها الخيارات التي كانت عند أحمد؛ تقليل الرغبات والحاجات، استخدام أفضل للموارد أو نمو اقتصادي، في هذه الحالة يبدو النمو الاقتصادي أفضل الحلول، أليس كذلك؟
عوامل النمو الاقتصادي
النمو الاقتصادي أمر جيد و مهم، هذا أمر واضح، لكن السؤال الأهم هو كيف ينمو الاقتصاد؟ أو ما هي العوامل المهمة التي تُساهم في النمو الاقتصادي؟
لنعد إذن لصديقنا أحمد، و لنطرح السؤال البديهي؛ كيف يمكن لأحمد أن يحقق نموًا اقتصاديًا لأسرته؟
النمو ممكن إذا تقدمت ورشة أحمد في إحدى النقاط الثلاث:
– اليد العاملة: كأن يجلب أحمد أجيرًا يعمل لديه، وهكذا يزيد إنتاج الورشة .
– الرأسمال: أن يستخدم رأسمالًا إضافيًا؛ كميات خشب إضافية، أو آلات جديدة.
– التقدم التقني: كأن يستبدل الآلات القديمة بأخرى أحدث منها؛ ببحيث تقوم بنفس العمل بكفاءة أكبر.
ماذا عن دور الدولة إذن؟
هل تبقى هذه العوامل الثلاثة هي الأهم؟ نعم بالتأكيد، فالزيادة في الأيدي العاملة (الأفراد القادرين على العمل)، أو في الرأسمال (على شكل قروض مثلًا)، بالإضافة إلى التقدم التقني والتكنولوجي الذي يتيح ظهور صناعات جديدة وطرق إنتاج أفضل، كلها عوامل تساهم في النمو الاقتصادي بشكل كبير. فكلما ازداد الاهتمام بتطويرها كلما نما اقتصاد الدولة بشكل أفضل.
كيف نقيس النمو الاقتصادي؟
بعد أن تعّرفنا على مفهوم النمو الاقتصادي، أهميته والعوامل المساهمة فيه، تبقى نقطة أخيرة سنقوم بالاطلاع عليها وهي كيفية قياسه، يتم قياس النمو الاقتصادي بعدة طرق تستخدم مجموعة من المؤشرات الاقتصادية سنكتفي بأهمها وأشهرها وأكثرها تعبيرًا عن الواقع الاقتصادي:
الناتج الداخلي الخام
من المؤكد أنك سمعت به كثيًرا في الأخبار وتساءلت عن معناه. لا تقلق، فالإجابة عن هذا السؤال بسيطة للغاية، فالناتج الداخلي الخام هو ببساطة: عبارة عن مؤشر لقياس كمية إنتاج اقتصاد ما في السنة الواحدة، بعبارة أخرى هو عبارة عن كل السلع والخدمات التي أنتجها الأفراد والشركات في اقتصاد ما خلال سنة واحدة.
هل تذكرون مصنعنا أعلاه؟ نعم مصنع الأحذية! ما هو الناتج الداخلي الخام لهذا المصنع؟
-أجيبونا في تعليق على هذا المقال-
وسيلة جيدة للقياس، أليس كذلك؟ لكن كيف يمكننا مقارنة النمو الاقتصادي لبلدين؟
المشكل هنا أن مساحة كل بلد وعدد سكانها ومواردها الطبيعية تختلف، وبذلك تبقى المقارنة بين الاقتصادات المختلفة بمقياس الناتج الداخلي الخام غير عادلة، ومن هنا جاءت الحاجة إلى مقياس جديد.
معدل النمو الاقتصادي
لا بد أنك سمعت من قبل، أن الاقتصاد الصيني قد نما بنسبة 10%
فماذا يعني ذلك؟ ببساطة، هذا يعني أن كمية السلع والخدمات التي أنتجتها الصين هذا العام زادت بنسبة 10% مقارنة بالسنة الماضية. ليس الأمر عصِّيا على الفهم، أليس كذلك؟ لكنها المصطلحات الاقتصادية المخيفة!
الخلاصة: أن هذا المؤشر يعني النسبة (المئوية) التي نما بها اقتصاد دولة ما مقارنة بالسنة الماضية، هذا كل شيء.
لنعد لمصنعنا الصغير كما فعلنا سابقا، ما هو معدل النمو الاقتصادي فيه لسنة 2015؟
صحيح أن هذه المؤشرات تعطينا نظرة شاملة عن مستوى النمو الاقتصادي للدول، لكن هناك مؤشر آخر يعطينا نظرة أوضح، حيث يمكننا المقارنة بين استفادة المواطنين من الناتج الداخلي لبلدهم، لنتمكن بذلك من مقارنة المواطن الأمريكي بالمواطن الصيني بدلا من مقارنة اقتصاد كل دولة باقتصاد دولة أخرى.
نصيب الفرد من الناتج الداخلي الخام
هذا المؤشر بسيط للغاية، فهو يعطينا النصيب المفترض لكل فرد من الناتج الداخلي الخام لبلده، أما حسابه فيكون ببساطة بقسمة الناتج الداخلي الخام للبلد على عدد السكان. كما قلت، الأمر بسيط للغاية.
لنأخذ مثالا بسيطا كالعادة:
لنعتبر أن مصنعنا أعلاه به 100 عامل، ولنفترض جدلا بأن الانتاج يقسم عليهم بشكل عادل بالتساوي، إذا كم يجب أن يكون نصيب العامل الفرد من إنتاج المصنع؟ (الناتج الإجمالي)
-الاجابة في التعليقات كالعادة-
الجميل في الأمر هنا أننا نستطيع مقارنة عمال مصنعنا هذا بعمال المصانع الأخرى من خلال مقارنة نصيبهم المفترض من انتاج مصنعهم، فالمفترض أن يكون من له نصيب أعلى من الانتاج أفضل حالا من البقية، أليس كذلك؟
لنفهم الوضع أكثر دعونا نقارن دولتين عربيتين هما : المملكة العربية السعودية و دولة قطر.
في سنة 2015 كان الناتج الداخلي الخام للمملكة السعودية أكبر من نظيره القطري بأكثر من 5 مرات !! فهل هذا يعني أن الإقتصاد السعودي أفضل حالا من الاقتصاد القطري؟ إذا استعننا فقط بالناتج الداخلي الخام فالإجابة ستكون نعم. لكن كما قلنا فهذا ليس معيارا للمقارنة
لننتقل إذا من حال الإقتصادين ككل لحال الأفراد في كل اقتصاد على حدة، و سنستخدم في هذه المقارنة نصيب الفرد من الناتج الداخلي الخام.
العجيب في الأمر هو أن نصيب الفرد القطري يساوي 3 أضعاف نصيب الفرد السعودي من الناتج الداخلي الخام لبلدانها.
الفرق ضخم كما ترون بين المعيارين، معيار الناتج الداخلي الخام و معيار نصيب الفرد منه ! و هذا أمر سنتطرق إليه في المقالات القادمة بإذن الله
في الختام
يُعد النمو الاقتصادي أحد أهم المؤشرات الاقتصادية على الإطلاق .
الحديث ذو شجون، لكنَّ المقال لا يتسع للتطرق لكل ما يخص هذا الموضوع الشائك، لذا سنتطرق إليه بالتفصيل في المقالات القادمة. انتظرونا