الاقتصاد ببساطةمدخل إلى الاقتصاد

الندرة النسبية … هل يمكننا حقا الاستغناء عن علم الاقتصاد؟

قد يطرح الكثيرون السؤال الوجودي الأكبر في عالم الاقتصاد: “لماذا نحتاج أصلاً إلى الاقتصاد؟” ما حجم الفاكهة التي وقعت على رأس المجرم الذي فكر في مجال البحث هذا؟ وفيما كان يفكر الذين ارتقوا بالاقتصاد إلى مرحلة العلم؟ في الحقيقة توجد إجابة واحدة على هذا السؤال: الندرة النسبية

ما هي الندرة النسبية ؟

ببساطة وباستقراء بسيط، فقد اتفق أغلب المختصون أن هناك اختلالاً في توازن حاجات ورغبات الناس نسبة إلى مواردهم الإقتصادية؛ فحاجات البشر ورغباتهم أكثر بكثير من الموارد التي توفرها الطبيعة والمجهود البشري، لذا فالموارد التي لدينا غير كافية لإشباع حاجيات ورغبات الجميع.

يمكن تبسيط الأمر من خلال المتراجحة التالية:

الموارد الإقتصادية < {الحاجات + الرغبات} 

إنها عملية حسابية بسيطة سنفك رموزها واحداً تلو الآخر

ما هي الموارد الإقتصادية؟

ببساطة يصبح مورد ما اقتصادياً عندما يصير نادراً بالمعنى الإقتصادي للكلمة، كيف ذلك؟

  • أن يشبع حاجةً أو رغبةً
  • أن يحتاج الحصول إليه إلى مجهود أو ثمن
ملاحظة: الأمر نسبي جداً؛ فقد يكون مورد ما اقتصاديًا في مكانٍ ما، وغيره اقتصادياً في مكان آخر.
مثال أول على ذلك: فالماء الصالح للشرب في قرية توجد على ضفة نهر أو فيها عيون لا يعتبر موردًا اقتصاديًا؛ لأنه حقق الشرط الأول ولم يحقق الشرط الثاني، فلا أحد في هذه الحالة سيبيع الماء أو يتاجر فيه. لكن لنفترض أن ماء النهر أصبح ملوثاً، وأقرب مصدر للمياه الصالحة للشرب يوجد على بُعد أميال من القرية، حينها فقط سيصبح الماء مورداً اقتصادياً؛ يدفع الناسُ المالَ في سبيل الحصول إليه!
مثال آخر: هل سمعت بأن أحداً يبيع الرمال داخل قبيلة تعيش في الصحراء؟! طبعاً لا؛ فلا أحد سيدفع مالاً في شيء لا يحتاجه، أو يستطيع الوصول إليه بكل سهولة. لننتقل إذن إلى مدينة بعيدة قيد الإنشاء، هل تصبح الرمال في هذه الحالة مورداً إقتصادياً؟ بالطبع نعم، فالحاجة إليها مُلِّحة في مجال البناء، وهناك من سيحتاجها ولا يستطيع الوصول إليها بلا مقابل، لذا فببساطة ستتحول الرمال عديمة القيمة لدى القبيلة الصحراوية إلى مورد إقتصادي يُباع و يُشتَرى.

ما هو الفرق بين الحاجة والرغبة؟

الحاجة هو إحساس بالنقص تجاه شيءٍ يجب أن تتحصل عليه؛ لأنك لا تستطيع العيش بطريقة طبيعية بدونه؛ كالطعام مثلًا، فأنت تستطيع البقاء بدون طعام لمدة أيام، أوالقيام بإضراب على الطعام لمدة تطول أكثر من ذلك، لكنك في نهاية الأمر يجب أن تأكل، لأن هذا الأمر ضروري لوجودك.

للحاجات أقسام متعددة وأشهر تقسيم لها هو تقسيم عالم النفس (Abraham Maslow) الذي طرحه في ورقته البحثية “A Theory of Human Motivation” ودشن بذلك ما يطلق عليه اليوم “التسلسل الهرمي للإحتياجات” ، حيث قَسَّم الإحتياجات البشرية إلى خمس أقسام مرتبة هرمياً بالشكل التالي، بحيث لا يجب إشباع نوع معين من الحاجات البشرية للإنتقال إلى النوع التالي :

1- الاحتياجات الفسيولوجية، كالأكل والشرب …
2- احتياجات الأمان، كالسلامة الجسدية والأمن بمختلف أنواعه …
3- الاحتياجات الاجتماعية، كالصداقة والعلاقات الأُسَرية …
4- الحاجة للتقدير، كالثقة بالنفس واحترام الآخرين …
5- الحاجة لتحقيق الذات، كالإنجاز والابتكار …

لكن هذه النظرية تعرضت لمراجعات وانتقادات عديدة منها:

  • أن الترتيب الهرمي في هذه النظرية نسبي جداً باختلاف الأشخاص والحالات الاجتماعية؛ حيث أن النظرية لم تحدد حجم الإشباع اللازم لنوع من الحاجيات للمرور إلى النوع التالي
  • إغفال أن الإنسان يمكنه إشباع العديد من الحاجيات في نفس الوقت
  • إغفال النظرية للجانب الديني والروحي.

أما بالنسبة للرغبة فهي شعور نفسي بتمني الحصول على شيء ما، قد لا يكون ضرورياً، لكن يُعَدْ الحصول عليه محبباً إلى النفس.

مثال على ذلك: تخيل موظفَيْن لا يملك أحدهما هاتفاً محمولاً بينما يملكه الآخر، مع العلم بأن كلا الموظفان يحتاجان الهاتف لأنه يلبي حاجة “التواصل”. بالنسبة للموظف الأول فشراء هاتف محمول أمر مهم جداً لإشباع حاجته للتواصل، لكن بالنسبة للموظف الثاني فقد تمت تلبية حاجته فعلاً، لكنه لديه رغبة شديدة في شراء الطراز الأخير من الأيفون1 الذي يتمناه، صحيح أنه ليس أمراً ملحاً لأن حياته لن تتأثر بعد اقتناءه، لكن الموظف الثاني لديه رغبة شديدة، ويتمنى شراء الهاتف الجديد منذ صدوره، بغض النظر عن أن هذه الرغبة ستتلاشى غالباً عندما يشتريه، ثم يسمع بعدها في يوم من الأيام طقطقة صادرة من جيبه عندما يحاول الجلوس، ليدعوا الله بأن يكون الصوت صادراً من عظامه بدلاً من هاتفه الجديد!
 

إذن فالندرة النسبية هي سبب ظهور الإقتصاد؟ تقريباً …
فإن ندرة مواردنا الإقتصادية تجبرنا على فعل شيء مقيت نكرهه جميعاً؛ وهو “الاختيار”، اختيار ماذا؟!

بما أننا لا نستطيع إشباع كل حاجاتنا ورغباتنا، فيجب علينا اختيار ماذا سنشبع، وما الذي سنتركه دون إشباع، هنا نجد أنفسنا أمام مواقف صعبة؛ يجب أن نشبع فيها الحاجات والرغبات التي لها أولوية بالنسبة لنا ، وأن نؤجل إشباع الأخرى، لذا فيجب دراسة الطريقة الأمثل لاختيار الكيفية الأفضل لاستعمال الموارد المتاحة في إشباع أكبرعدد ممكن من حاجاتنا ورغباتنا.

ملاحظة: حل مشكلة الاختيار هذه سيكون صعباً جداً إذا لم نتعرف على مفهوم تكلفة الفرصة البديلة

ما هي تكلفة الفرصة البديلة؟

هي ببساطة “تكلفة فرصة الاختيار”، بحيث أن توفرك على رفاهية الاختيار بين عدة بدائل له تكلفة، كيف ذلك؟

أنت الآن تقرأ هذا المقال منذ عدد لا بأس به من الدقائق، وذلك بمحض إرادتك وبكامل قواك العقلية (إن لم تكن من ضمن الذين أُجبرهم على قراءة مقالاتي بواسطة التهديد أوالإبتزاز!)، وهذا يعتبر استعمالاً لأحد أهم مواردك الإقتصادية المحدودة وهو الوقت، حيث اعتبرت أن قراءة مقالي المتواضع هذا أفضل من قراءة بعض صفحات من روايتك المفضلة، والتي كانت أفضل البدائل لديك، فالوقت التي تقضيه الآن في قراءة هذا المقال كان يمكن أن تستخدمه في أي شيء آخر.
إذن فتكلفة الفرصة البديلة لقراءة هذا المقال هي: عدم استمتاعك بقراءة روايتك المفضلة الآن.

على كل حال فإذا ضبطنا مفهوم النُدرة الذي يوضح حتمية تعاملنا مع معضلة الاختيار في تلك المرحلة؛ فهذا سيوصلنا لامحالة إلى طرح الأسئلة الثلاثة الآتية:
ماذا ننتج ؟ كيف ننتجه ؟ لمن ننتجه؟…

هذه الأسئلة يجيب عنها الجميع دورياً

ففي أول كل شهر يقبض كل مواطن دخله (راتباً كان أم أرباح مشروع صغير …) والذي يمثل أحد أهم موارده الإقتصادية، المشكلة الآن هي أن راتبه غير قادر على إشباع كل حاجاته، فما بالك برغباته! هنا يجب عليه الاختيار بين الحاجات التي لها أولوية بالنسبة له.
وقد تجده بعد أن ارتفع ضغطه يفكر في الاستقالة من وظيفته (التي يبيع فيها جهده ليتم إنجاز علم بشري) أو يفكر في إعادة النظر في المنتجات التي يبيعها في دكانه الصغير بهدف زيادة دخله المادي.

لكن ربما أن ما ينتجه ليس هوالمشكلة، بل أن الكيفية التي يُنتج بها هي التي وضعته في هذا المأزق، فربما يجب عليه أن يغيرها، أو ربما يجب أن يغير مكان الدكان ليبحث عن زبائن أكثر يشترون كميات أكثر من منتجه، فلابد أن منتجاته جيدة جداً لكنه يبيعها للزبائن الخطأ، فالسؤال الأهم في هذه الحالة هو: لمن ننتج؟

نفس المشكلة تواجهها الحكومات، فالدول عادة لديها أيضاً موارد كالضرائب، وأرباح المشروعات القومية، والصادرات، لكن حاجات الشعوب ورغباتها كبيرة جداً، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تشبعها كلها، لذا فالحكومة على رأس كل سنة تختار كم ستنفق على التعليم والصحة والبحث العلمي …
وهي بالطبع لن تستطيع حل كل هذه المشاكل بمواردها المحدودة، تلك هي المشكلة الإقتصادية!

الحكومة أيضاً توجه الإنتاج بطرقها المعروفة، ويجب أن تختار بين مساندة الزراعة أوالصناعة أو قطاع الخدمات، لذا فأسئلة مثل ماذا ننتج؟ كيف ننتجه؟ مهمة جداً بالنسبة لكل حكومة.

سؤال مهم يجب أن تجيب عنه الحكومة أيضاً، ألا وهو “من يجب أن توجه إليه إنتاجها؟”، فلمن يجب أن تباع الحواسيب التي أنتجها المصنع المملوك للدولة؟ ولمن يجب أن توجه إليه الخدمات العامة التي تنتجها الدولة؟ الطبيعي أنها لن تستطيع خدمة الجميع، لكنها يجب أن تختار حسب أولوياتها.

هذه هي ببساطة وببعض التفصيل المشكلة الإقتصادية المسماة بالنُدرَة النسبية؛ إنها المشكلة التي يدور حولها الإقتصاد بكل فروعه، وفهمها واستيعابها جيداً سيكون أول خطوة في طريق فهمك لعالم الإقتصاد الممتع.

أحمد كشيكش

أحمد كشيكش - مسؤول فريق المحتوى التعليمي : مدون و طالب باحث في العلوم الاقتصادية

المقالات المتعلقة

2 تعليقات

  1. بوركتم وجزاكم الله خير الجزاء.اسلوب رائع سلس يشد القارئ اليه،ويسيطر على جميع حواسه.لن تشعربملل وانت تقرأ،بل تطلب المزيد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى