مدخل إلى العولمة الاقتصادية | أمور يجب أن تُوضَّح
يمكننا تعريف العولمة الاقتصادية بأنها الظاهرة التي أدت إلى ربط اقتصادات الدول بعضها ببعض عبر تحرير حركة السلع والخدمات والاستثمارات ورؤوس الأموال. وذلك بفضل تطور وسائل النقل والاتصال.
العولمة كلمة يراها الناس في التلفاز، يقرؤون عنها في الجرائد، يدرسونها في الجامعات، ولكن يبدو أنه لا أحد يعرف ماهيتها حق المعرفة؛ والسبب في ذلك أنها فعلًا ظاهرة إنسانية غاية في التعقيد، حيث تتداخل فيها الجوانب الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية مما يجعل فهمها صعبا على العديدين بالرغم من أهميتها الكبيرة وتأثيرها – إذا لم نقل وتكوينها – للواقع الذي نعيشه اليوم، بل وتكفي نظرة خاطفة على الجدالات الدائرة حولها – إن كنت من المتابعين لهذا الموضوع – لنتبين أن أغلب النقاشات عن هذا الموضوع يُعرِّف مستوىً عالٍ من الاستقطاب نحو ثنائيات الخير المطلق والشر المطلق فإما أن تكون معها مشجعا وإما أن تكون ضدها محاربا. وهذا يضعنا أمام السؤال التالي:
هل هذه الثنائيات كافية لتحليل ظاهرة بالغة التعقيد كالعولمة؟
هل العولمة الاقتصادية سعادة أم هول؟
سؤال خاطئ في الوقت الخاطئ، وإجابته -كيفما كانت- ستكون محض عبث؛ إن لم نتطرق بالتفصيل لإجابة السؤال التأسيسي: ما هي العولمة؟
يرى Charles-Albert Michalet الاقتصاديّ الفرنسي في كتابه‘ ما هي العولمة؟ أطروحة بسيطة مقدمة للذين لا يعرفون ما الذي يجب أن نكون معه أو ضده’– الكتاب الذي سيكون المرجع الأساسي الذي سنستخدمه في شرح الظاهرة؛ أن الخلاف بين مناصري ومناهضي العولمة هو خلاف عقيم، لأنه كيفما كان الرأي المُقَدَّم حول هذه الظاهرة تبقى العولمة ظاهرة متجذرة في واقعنا الحالي لارتباطها ارتباطًا وثيقًا بسير عمل النظام الاقتصادي الرأسمالي نفسه!
من جهة أخرى؛ إذا كانت العولمة تُشَكّل الوجه الآخر للرأسمالية، فهذا لا يعني أنها بقيت ثابتة منذ نشأتها بظهور الاقتصاد العالمي.
العولمة ظاهرة قديمة لكن مكوناتها تغيرت، وتطورت وتداخلت مع مرور الوقت، فهي كغيرها من الظواهر تتميز بمكونات عدة، وتجاهل هذه النقطة يفتح الباب لكل التحليلات الخاطئة، فالمنطقي هو أنه كلما زاد تعقيد ظاهرة ما زادت أهمية تحليلها تحليلًاً دقيقًاً؛ يؤخذ بعين الاعتبار تعدد وارتباط مكوناتها، وتطورها التاريخي، فإنه يجب علينا الإقرار بأن كل حكم غير مبني على تحليل ودراسة عميقين هو حكم ناقص وسطحي جدا.
إذن لماذا نعتبر أن العولمة مفهوم معقد؟ ببساطة لأن واقعنا الاقتصادي اليوم تتداخل فيه أبعاد مختلفة.
يمكننا حصر العولمة الاقتصادية في ثلاثة أبعاد
البعد الأول: عولمة التجارة الدولية
وذلك بنمو تبادل السلع والخدمات بين الدول فيما يسمى بالاستيراد والتصدير، فمع تشكل الدولة الحديثة وتطور التجارة ووسائل النقل، تطورت أيضا العلاقات التجارية بين الدول، حيث أصبح مفهوم “الاكتفاء الذاتي” غريبا جدا بالنسبة لبعض الدول، وبدأت التجارة الخارجية بين الدول وبعضها تأخذ أهمية أكبر وأكبر في الاقتصاد المحلي لجلِّ الدول في عالمنا المعاصر.
البعد الثاني: عولمة وسائل الإنتاج وظهور الشركات متعددة الجنسيات
عبر ما يسمى الاستثمارات الخارجية المباشرة؛ في بداية النصف الثاني من القرن العشرين بدأ نوع آخر من العلاقات الاقتصادية بين الاقتصاد المحلي والعالمي بالظهور فبالإضافة إلى التبادل التجاري، أصبحت بعض الدول تتلقى سلعًا وخدمات كواردات من بقية الدول، ظهرت شركات كبيرة غير مرتبطة بدولة محددة سميت فيما بعد بـالشركات المتعددة الجنسيات، حيث لم يعد هدفها هو تصدير السلع إلى دولة أخرى بل أصبحت تقوم باستثمارات فيها بإنشاء المصانع وإجراء عمليات الإنتاج على أرض الدولة.
بالتالي فعوضُا عن استقبال الدولة لمنتجات الشركات الكبرى عبر الاستيراد، أصبحت تستقبل مصانع بأكملها لكي تقوم الشركات الكبرى بعملية الإنتاج على أرضها.
البعد الثالث: العولمة المالية
وذلك عبر نمو حرية حركة رؤوس الأموال؛ فالاقتصاد المحلي للدول لم تعد تؤثر فيه الواردات أو الاستثمارات الخارجية المباشرة التي تأتي من الخارج فقط، بل أصبحت رؤوس الأموال نفسها تسافر بين الدول المختلفة لتبحث عن أقصى معدلات الربح الممكنة، فاليوم بإمكان المستثمر الأجنبي أن يؤثر في اقتصاد دولتك عبر الاستثمار في البورصة أو شراء سندات الخزينة التي تصدرها حكومتك.
وبهذا الشكل أصبحت اقتصاداتنا مُرَّكبة ومعقدة تتداخل فيها التجارة والاستثمارات الخارجية مع حركة رؤوس الأموال بين الدول –وهذه هي الأبعاد الثلاثة التي تحدثنا عنها للتو– لتجعل اقتصاد دولتك مرتبطًا بشكل كبير مع اقتصادات باقي الدول، حتى أنه قد يبدو للناظر أنه لم تعد هناك اقتصادات محلية بل ظهر مكانها اقتصاد عالمي كبير، ومن هنا جاء استخدام لفظ –العولمة الاقتصادية– في وصف تداخل اقتصادات الدول ببعضها البعض.
كيف يمكننا أن نفهم إذًا كل هذا التعقيد؟
- سنقوم ببساطة بتفكيكه، حيث نحلل المراحل التي مر بها الواقع الاقتصادي العالمي ليصل إلى ما هو عليه اليوم.
- سنركب آلة الزمن ونسافر بها عبر التاريخ لنقوم بتحليل كل مرحلة على حدة، لنعرف ما الظروف الذي أدت إلى الوصول إليها، ما هو البُعد )تبادل السلع والخدمات – الاستثمارات الخارجية المباشرة – حركة رؤوس الأموال( المؤثر فيها والمهيمن عليها، ومن هم أهم الفاعلين الاقتصاديين فيها، إضافة إلى كيفية تنظيم العلاقات بين الدول خلال هذه المرحلة.
- بعد فهم كل مرحلة بشكل دقيق، سنركب آلة الزمن من جديد لنعود إلى واقعنا و لنتمكن من تحليل العلاقات بين الأبعاد الثلاثة التي تشكَّلت عبر التاريخ وكيف تؤثر على بعضها البعض وعلى اقتصادنا اليوم.
هذه الرحلة الشيقة ستمكن القارئ المهتم من تكوين صورة كاملة عن هذه الظاهرة ومن ثَمَّ الحكم على إيجابياتها وسلبياتها، حيث يبقى هدفنا الأول في ألف باء اقتصاد هو أن نقدم للقارئ المعرفة التي ستمكنه من الحكم بنفسه على الأمور.