جنون التوليب
ماذا لو عرضت عليك مبادلة عقار تملكه ببضعة أزهارٍ، هل سترفض؟
ماذا لو أخبرتك أنها زهرة مميزة جدًا؟!
ما زلت تنظر إليَّ كمجنون؟
حسنًا، ماذا لو أخبرتك أنها فرصة رائعة للثراء، وأن سعر تلك الزهرة يتضاعف بمرور الساعات وأنك ستجني أرباحًا هائلة، وأن هذا الوضع السعيد سيستمر للأبد ولن يتوقف السعر عن الارتفاع مطلقًا.
بدأت تقلب الأمر في ذهنك الآن، أليس كذلك؟
ما أصفه لك حاليًا هو ما حدث بالضبط عام 1636 بهولندا، ولكن كيف بدأ الأمر؟
زهره التوليب
الزمن: عام 1593
المكان: قلب القارة العجوز فيما يعرف الآن بهولندا بالتحديد.
الحدث: ظهور زهرة نادرة، تركية الأصل، تُدعى (زهرة التوليب) تتميز بشكلٍ استثنائي وبقدرة فائقة على تحمل ظروف البرد الشديدة.
في ذلك الوقت، كانت زهرة التوليب زهرة استثنائية تختلف عن كل ما تعرفه أوربا حينها، بالتالي أصبحت سلعة للرفاهية لا يقتنيها سوى الأثرياء.
زهرة نادرة، مميزة الجمال، مرتفعة الثمن، أتت بذورها من الإمبراطورية العثمانية عبر سفير أحد ملوك أوربا الكبار.
لكن ليس هذا ما أعطاها من الشهرة لتستحق الذكر بعد أكثر من خمسة قرون..
زهرة مميزة
زهرة حمراء، جميلة جدًا، نادرة، أصبحت رمزًا للرُقي والرفاهية مما جعل الحصول عليها صعب المنال لغير الأغنياء. لكن بعد فترة من وصولها إلى أوربا، أصاب بصيلات الزهرة فيروس زادها استثنائية وجمالًا فجعل لها ألوانًا مختلفة وخطوطًا بدت كألسنة اللهب؛ مما جعلها أكثر تميزًا وزاد الاقبال على شرائها من علية القوم.
زاد الفيروسُ الزهرة تميزًا حيث منحها ألوانًا مختلفة لدرجة أن المزارعين حينها كانوا يطلقون على كل نوع منها أسماء علية القوم، فسميت بعض الأنواع بأسماء مثل: زهرة الأميرال فان ديراك، وزهرة الإسكندر الأكبر، حتى وصل الأمرلتسمية إحدى الزهور بزهرة جنرال الجنرالات وأخرى بزهرة أميرال الأميرالات.
لكن، مع اللمسة المثالية التي أضافها الفيروس إلى غلاف الزهرة كان هناك تأثيرٌ آخر ساعد على جعل الأزهار المصابة نادرة إلى درجة اختفت معها بعض الأنواع المصابة.
حيث كان الفيروس يُضعف بصيلة الزهرة وبالتالي يُضعف انتشار النباتات. ولهذا خلال مرور الأجيال من الزرع المتواصل أصبحت الازهار تنمو أضعف فأضعف فكان هذا سبب في عرض محدود للأزهار المصابة.
عندما بدأت الأمور تخرج عن السيطرة
لا يملأ فم ابن آدم إلا التراب… بدأ التجار يشترون هذه الزهرة بكثافة لظنهم أن السعر سيبقى دومًا في ارتفاع، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل أصبح عامة الناس من غير التجار يقبلون على شراء الزهرة لا لما تمثله لهم من قيمة، بل كوسيلة للربح السريع فقط.
فانتقلت الزهرة من عمليات بيع وشراء عادية بهدف اقتناء الزهرة بين التجار إلى عمليات مضاربة على سعر الزهرة لكي تباع بسعر أعلى في يوم آخر.
وبين ندرة كبيرة وعرض محدود من جهة، وطلب كبير جدًا من جهة أخرى، ارتفعت أسعار الزهرة إلى مستويات جنونية لا تعبر عن قيمتها الحقيقية.
فوصل الارتفاع في الأسعار الى الدرجة التي كان يتم فيها مقايضه المنازل والمواشي ببضعة بصيلات من الزهرة.
حيث تمت مقايضة 12 فدان مقابل زهرتي سمبر أوجست – أحد الأنواع النادرة من الزهرة –.
وبلغ ثمن 40 بصيلة 100,000 فلورين – العملة المحلية حينها – في الوقت الذى يساوي فيه أجر عامل ماهر 150 فلورين في العام. وبلغ سعر طن من الزبد 100 فلورين، حيث تقدر القوة الشرائية للفلورين الواحد بأكثر من عشرة أضعاف القوة الشرائية لليورو عام 2002 .
كما كانت هناك سوق رسمية آجلة للتعاقد على بيع وشراء أزهار سيتم حصدها آخر الموسم.
ولكن لم يتم أي تفعيل حقيقي لتلك العقود حيث انقلب الوضع رأسًا على عقب، وفقدت الزهرة القيمة التي اكتسبتها.
القشة التي قصمت ظهر البعير
من أجل تنظيم عمليات بيع وشراء الزهرة بالجملة كانت هناك سوق رسمية آجلة للتعاقد على بيع وشراء أزهار سيتم حصدها آخر الموسم.
في صبيحة أحد الأيام بمدينه هارلم الهولاندية حيث اعتاد التجار التجمع في إحدى الساحات للقيام بمزاد معتاد على الزهور، كانت المفاجأة أنه لم يأت أحد إلى المزاد!
لماذا لم يحضر التجار؟
تشير بعض المصادر أن السبب هو تفشي مرض الطاعون في المدينة. لكن بعيدًا عن السبب الذي أدى لهذه الواقعة فقد كان لهذا اليوم ما بعده.
أدى الحادث إلى حدوث حالة هلع بين التجار مما جعلهم يحاولون بيع الكميات الموجودة لديهم من الأزهار، فارتفع بذلك العرض بشكل جنوني ثم انهارت الأسعار وانقلبت الموازين!
حيث استندت المغالاة في سعر تلك الزهرة على وجود المزيد من المشترين كل يوم. لكن عندما أدرك مالكو الازهار أن التدافع نحو الشراء انقلب إلى تدافع نحو البيع، بدأ الكل في بيع مخزونهم من الأزهار، واستمر السعر في الانخفاض بشكل جنوني لم يكن يتوقعه أكثر الناس تشاؤما.
ما بعد العاصفة
بعد انهيار الأسعار وخسارة المضاربين على أسعار البصيلات وفقد العديد لممتلكاته ومدخراته، مال الناس إلى التقشف والحذر في الإنفاق كما هو معتاد بعد حادثة كهذه، وتبع الانهيار كسادٌ في الاقتصاد بأكمله حتى وصل إلى الأفراد والقطاعات التي لم تشارك في المضاربة على الأزهار.
حاولت الحكومة السيطرة على الوضع، فأعلنت أن أي تعاقدٍ لشراء بصيلات الزهرة في المستقبل يعتبر باطلًا ويدفع 10% رسوم لذلك، واعتبر القضاءُ الديونَ الناتجة عن أي تعاقد هي ديون عن طريق لعب القمار بالتالي ليست قابلة للتنفيذ تحت مظلة القانون..
لكن كل ذلك لم يكن كافيًا لتخفيف آثار الأزمة المدمرة.
الفقاعة الاقتصدية: التاريخ لا يعيد نفسه، لكن البشر لا يتعلمون!
لم تكن هذه حكاية تاريخية بغرض التسلية، فما حدث في أوربا منذ قرون لا يزال يحدث إلى يومنا هذا فيما يسمى بالفقاعة الاقتصادية حيث يتم المضاربة على أحد الأصول بسعر ينحرف بدرجه كبيرة عن القيمة الفعلية لهذا الأصل، ويكون سبب الارتفاع في السعر توقعات الناس المتفائلة باستمرار الأسعار في الارتفاع مما يعنى فرصة لتحقيق الأرباح .
ومع الجشع يزداد الاقبال الجنوني على الأصل حتى يحدث أمر يجعل الناس يكتشفون أن السعر لن يرتفع أكثر فيبدأ الجميع في البيع دفعة واحدة مما يؤدي إلى انخفاض السعر بجنون أكبر من جنون ارتفاعه، وهنا تحدث الكارثة!
يعتبر حدوث الفقاعات سمة من سمات تاريخ الاقتصاد الحديث ويتكرر حدوثها بشكل مستمر. وفى غالب الأمر لا يتم التعرف على الفقاعة إلا بعد حدوثها أو عند لحظة حدوث الانهيار في الأسعار والتي تسمى بلحظه انفجار الفقاعة ، حيث يكون من الصعب مراقبه القيم الفعلية في الأسواق، وتبقى من أشهر الفقاعات هي فقاعة أسعار الأسهم التي سببت في انهيار بورصة وول ستريت سنة 1929 لتعقبها بذلك أكبر الأزمات الاقتصادية في التاريخ المعاصر والتي سميت بالكساد الكبير