كارل ماركس والثورة الصناعية … آلام وآمال
تَخرج المنح دائمًا من رحم المحن، وكأن آلام الحاضر ما هي إلا مخاض لولادة المستقبل! هكذا كانت الثورة الصناعية في تاريخ أوروبا والعالم في أواخر القرن الثامن عشر .. تلك الثورة طغت على اهتمامات بطل قصتنا كارل ماركس
نحتاج إلى العودة قليلًا إلى تلك الفترة لنرى جانبًا مظلمًا من بداية الثورة الصناعية. إن نظرة عابرة في الظروف السائدة تلك الأيام الأولى من انتشار المصانع تكفيك لتعلم أنها كانت فترة مفزعة بدرجة كافية لتجعل رأسك يشيب رعبًا.
في تلك الفترة، كان يتم إرسال أبناء الفقراء إلى المصانع وأعمارهم لا تتجاوز العاشرة بكثير، فأطفال مصنع لودهام Lowdham (مصنع في مدينة إنجليزية) على سبيل المثال كانوا يُضربون بالسياط، لا عقابًا عن أخطاء ارتكبوها، بل كحافز لبذل المزيد من المجهود إذا بلغ منهم التعب مبلغه آخر النهار. أما في مصنع ليتون Litton فكان الأطفال يعملون شبه عراة في برد الشتاء القارس، ليُضطروا للزحف مع الخنازير على أربع لتنظيف النفايات العالقة في الأحواض. في هذا المصنع المرعب، كان الأطفال يتعرضون لكل ما يخطر ببالك من عنف جسدي واعتداء جنسي، من مدير المصنع وصاحب العمل، الذين كانا يتفننان في أساليب تعذيب الأطفال في مشاهد تقشعر لها الأبدان.
كانت الآثار الاجتماعية للثورة الصناعية واضحة للعيان، فالعمال (رجالًا ونساءً وأطفالًا) كانوا مكدسين في المصانع كالعبيد تحت تصرف مالك المصنع الرأسمالي الجشع. إنه عهد رِقٍ وعبودية جديد، لكن في ثوب صناعي بدل الثوب الإقطاعي.
في تلك الظروف بالغة السوء، لم يكن من المتصور أن يعترض أحد على الأجور أو ساعات العمل (كان الأطفال يعملون في بعض المصانع ثلاث عشرة ساعة يوميًا) فضلًا عن الاعتراض عن المساكن غير الآدمية والحياة الكئيبة التي يعيشونها في المدن الصناعية التي تعج بروائح المصانع النتنة.
وسط تلك الظروف، ظهر المؤرخ والاقتصادي جون شارلز سيسموندي Jean Charles Sismondi ليكون أول الاقتصاديين الذي تحدثوا عن تقسيم طبقي للمجتمع، فمجتمع الثورة الصناعية كان مكونًا من طبقتين اجتماعيتين تعادي إحداهما الأخرى: الرأسماليين الأغنياء (مُلاك المصانع) والعمال الفقراء.
رغم هذه الصورة القاتمة للنظام الاجتماعي التي أفرزته الثورة الصناعية، فقد كان لهذه الأخيرة الفضل في أكبر تطورات الفكر الاقتصادي؛ فقد أفرزت الثورة الصناعية اثنين من أكثر الاقتصاديين شهرة على الإطلاق.
- الأول: آدم سميث، حيث كان الاقتصادي المتنبئ بمنجزات تلك الثورة وفوائدها.
- الثاني: كارل ماركس، حيث كان المنذر بمساوئ تلك الثورة، منتقد السلطة التي أعطتها لملاك المصانع وما سببته تلك السلطة من فقر وقهر للعمال، فقد جاء كارل ماركس ليتلقى تلك الفكرة التي طرحها سيسموندي ويبلورها في إطار فلسفي له أبعاد مجتمعية واقتصادية وسياسية
ما لا تعرفه عن كارل ماركس !
ولد كارل ماركس Karl Marx عام 1818 في مدينة ترير Trier بألمانيا، حيث كان الابن الثاني لأسرة يهودية غنية لم تلبث أن تحولت إلى المسيحية ليحتفظ الأب هينريتش Heinrich بشهرته الواسعة في المحاماة! وعلى الرغم من انحدار كلا الأبوين من نسل أحد أشهر الحاخامات اليهود إلا أن كارل ماركس كان دائم المعاداة لتلك الأصول. كان البارون الغني ويستفالين Von Westphalen أحد جيران ماركس، وكان هذا الأخير يعتبره بمثابة عمه، أدت هذه الجيرة والعلاقة القوية بين العائلتين لزواج ماركس من ابنة البارون: جيني Jenny!.
تشرب عقل كارل ماركس العقلانية (أي الاحتكام إلى العقل والمنطق كمصدر للمعرفة والتفسير) وكذلك الرومانسية (وهي حركة فكرية نشأت كرد فعل على الثورة الصناعية، تدعو للتحرر من قيود العقل والواقع) منذ صغره، فقد نهل، من جهة، من عقلانية والده المتأثرة بمفكري فرنسا وإنجلترا، ومن جهة أخرى عرَّف البارون المثقف ماركس على روايات شكسبير وكتب المدرسة الرومانسية، كما عرَّفه على الاشتراكية المثالية.
سافر ماركس وهو ابن السابعة عشرة إلى جامعة بون University of Bonn لدراسة الفلسفة والأدب، لكن ضغوط والده ألزمته دراسة القانون، وخلال دراسته في الجامعة انضم ماركس إلى نادي الشعراء (وهي مجموعة تحتوي على الشباب المنشغلين بالسياسة) وكعادة التجمعات السياسية في تلك الفترة، فقد كانت الشرطة لهم بالمرصاد.
في هذه الفترة الزمنية، سبَّب ماركس لأبيه خسارة الكثير من الأموال بسبب طيشه، فقد كان كارل يشرب الخمروينفق الأموال بسفاهة، ما جعله يتعرض للسجن أكثر من مرة بسبب السُكر والثمالة في زنزانة خاصة بالجامعة. رغم ذلك أكسبت تلك المرحلة ماركس بعض الخبرات العملية والقانونية وحققت له أول انتصار سياسي خوله أن يكون رئيسًا لمجتمع الحانات في البلدة!
أما فيما يتعلق بالدراسة، فعلى الرغم من أن درجاته كانت جيدة في الفصل الأول من الدراسة الجامعية، إلا أنها سرعان ما تدهورت بعد ذلك، مما أجبر والده على نقله إلى جامعة برلين University of Berlin لأنها أكثر صرامة، ولكن محاولات الأب اليائسة لم تغير شيئا، بل على العكس فقد اضطر كارل للتنقل عشر مرات خلال الخمس سنوات التي قضاها في برلين هروبًا من القضايا المرفوعة ضده من الدائنين، وانحدر حال كارل لدرجة أنه كان مثالًا لطلاب الكلية غير المغتسلين القذرين، وانحرف عن دراسة القانون والفلسفة وأصبح طالبًا لا يرى في الجامعة سوى معسكر للتخييم!
تزامنت هذه الفترة الزمنية التي قضاها ماركس في جامعة برلين مع اكتساح جدل فلسفي كبير لجامعات ألمانيا المحافظة التي اختلفت في تقييمها لمذهب جديد كان نتيجة الإنتاج الفكري الغزير للفيلسوف الألماني فريديريك هيجل (Friedrich Hegel).
ماركس الفيلسوف!
أطلق هيجل نظامًا فلسفيًا ثوريًا لا يؤمن بالثبات، حيث أن فكرته قائمة على اعتبار أن التغيير هو السنة الكونية التي تُسيرالحياة، كيف ذلك؟ عن طريق مبدأ فلسفي أطلق عليه المنطق الدياليكتيكي (المنطق الجدلي)، وهو ينبني على ثلاث مبادئ:
- أن كل فكرة (thesis) لها نقيض (antithesis) يعارضها وينتقدها.
- أن هذا النقيض يتفاعل مع الفكرة عن طريق الحوار أو الصراع.
- أن تفاعل الفكرة مع نقيضها يؤدي إلى ظهور فكرة جديدة (synthesis) .
على هذا الأساس، فكل الأفكار ستتغير عاجلًا أم آجلًا، وتُعدُّ الأفكار الاقتصادية أكبر دليل على ذلك، فكل مدرسة من الفكر الاقتصادي تؤدي إلى ظهور مدرسة معارضة لها، والحوار والصراع الفكري بين هاتين المدرستين يؤدي إلى ظهور مدارس اقتصادية جديدة تضم أفكارًا من كلا المدرستين المتصارعتين.
انقسم الفلاسفة الذين تأثروا بأفكار هيجل بعد وفاته سنة 1831 إلى قسمين:
- اليساريون الراديكاليون: الذين انشغلوا بالسياسة والدين وأطلق عليهم حينها “شباب الهيجليين”، حيث انتقدوا تصورات هيجل المثالية وحرفوا فلسفته إلى منحى مادي تماما.
- اليمينيون المحافظون: والذين أبقوا على أغلب أفكار هيجل المثالية بدون تحريف.
وعلى الرغم من أن هيجل توفي قبل أعوام قليلة من بدء ماركس لحياته الجامعية، إلا أن فكره أسر عقل ماركس ليصر على أن يصبح فيلسوفا، مما دفعه لتعلم الفلسفة بمفرده ليلتحق بعدها بشباب الهيجليين الذين كانت تدور بينهم نقاشات حادة حول الشيوعية النظرية باستخدام أسلوب هيجل الدياليكتيكي. وعلى الرغم من حصول كارل ماركس على شهادة جامعية من كلية الحقوق، إلا أنه كان قد فتن بالفلسفة !
أولا: المجتمع الشيوعي هو مجتمع يتساوى فيه الجميع بشكل مطلق، فلا يفرق بينهم فكر أو دين أو حالة اجتماعية، المجتمع الشيوعي هو مجتمع مثالي بلا طبقات.
ثانيا: بما أن الناس متساوون، فلا سلطة لأحد على أحد، ولا وجود لسلطة سياسية أو دولة تُسيِّر شؤون الناس.
ثالثا: لا وجود لمفهوم الملكية الخاصة في المجتمع الشيوعي؛ فكل الموارد الاقتصادية ووسائل الإنتاج من مزارع ومصانع في المجتمع الشيوعي هي ملكية عامة.
السؤال هنا: كيف يمكن الوصول إلى هذه المجتمع المثالي؟ كيف يتم الانتقال من مجتمع مكون من طبقين تملك إحداهما (البرجوازيين – الأغنياء) وسائل الإنتاج في حين تعمل الأخرى (البروليتارية – العمال) في المصانع كالعبيد في ظروف مأساوية إلى مجتمع شيوعي يتساوى فيه الجميع؟
كيف تنتقل الملكيات الخاصة (المصانع والمزارع والشركات) إلى ملكية عامة؟ كيف ننتقل من حالة الدولة إلى حالة اللا دولة؟
الجواب هو: عن طريق الثورة! ثورة يقودها العمال.
ثورة تُسقط الدولة وتُؤمم (التأميم هو نقل الملكيات الخاصة إلى ملكية عامة) جميع أملاك البرجوازيين، ثم تضع على رأس السلطة نظامًا سياسيًا يقود الفترة الانتقالية التي تمتد بين المجتمع الرأسمالي الطبقي إلى مجتمع شيوعي مثالي، نظام نعرفه باسم: النظام الاشتراكي.
الفرق بين الشيوعية والاشتراكية، هو أن الشيوعية هي الحالة المثالية التي يريد المفكرون الشيوعيون الوصول إليها، بينما الاشتراكية هو النظام السياسي الذي سيحول المجتمع إلى مجتمع شيوعي، ببساطة الشيوعية هي الهدف بينما الاشتراكية هي الوسيلة التي ستحققه.
جاء عام 1838 بحدث غيَّر حياة ماركس بشكل كبير؛ حيث توفي والد ماركس الذي كان يدعمه ماليًا، وأدى ذلك إلى انخفاض حاد في دخل أسرته، فلجأ ماركس إلى كتابة الروايات لزيادة دخله، لكنه لم يُنشر له أي منها خلال حياته، مما أقنعه بإتمام دراسته والحصول على شهادة أعلى ومستقبل أفضل، فبدأ في عام 1840بالتعاون مع أستاذه السابق برونو باور Bruno Bauer في تحرير كتاب “فلسفة الدين” الذي جمع أفكار هيجل التي وضحها في محاضراته، وساعده ذلك في إتمام أطروحته التي كان يرغب في الحصول عن طريقها على الدرجة الأكاديمية الأعلى، وكان موضوع هذه الأطروحة هو “الفلسفة اليونانية”.
لم تلق هذه الأطروحة إعجاب الجميع، فقد كانت مثيرة للجدل، وخاصة بين الأساتذة المحافظين في جامعة برلين، لذا قرر ماركس بدل ذلك تقديم أطروحته إلى جامعة جينا University of Jena الأكثر ليبرالية، وبالفعل منحت هيئة التدريس له درجة الدكتوراه في أبريل 1841.
اتجه ماركس بعد حصوله على درجة الدكتوراه للعمل بالصحافة، فعمل لصحيفة راينيش زايتونج Rheinische Zeitung الليبيرالية الموجهة للطبقة الوسطى، لكن عمله بها كان نذير شؤم لتغلق الصحيفة بعد عمله بها هناك بخمسة أشهر فقط لانتقاده قيصر روسيا، ليتوجه بعدها ماركس لباريس ويختلط إثر ذلك بالشباب الشيوعيين، وليبدأ في مغازلة الشيوعية بكتاباته، ويلتقي بفريديريك إنجلز Friedrich Engels لتبدأ بعدها أكبر التحولات الفكرية في حياته.
الشاعر والناقد الألماني ومؤلف السلام الوطني الألماني هاينريش هاينه (Heinrich Heine) وهو يصف مجموعة الشباب الشيوعيين التي رافقها ماركس.
كان فريدريك إنجلز أحد هؤلاء الشباب، وكان ابنًا لأحد الأثرياء ملاك مصانع النسيج. كانت حياة إنجلز مليئة بالتناقض، فهو في الصباح رأسمالي من طبقة الأثرياء يعمل مديرًا في مصنع والده ويتقاضى راتبًا كبيرًا، أما المساء فله شأن آخر، فقد كان يمضيه وهو يقرأ لهيجل والأدب الشيوعي، هذا التناقض لم يزعج إنجلز كثيرًا، فلم يكن يمانع أن يحتسي كأسًا من أجود أنواع الخمر في صحة الطبقة العاملة. وعندما لم يكن يطارد الثعالب في صيده كما يفعل بنو جلدته من الأثرياء، كان يطارد النساء!
كان تأثير إنجلز على ماركس كبيرًا، فقد بدأت فلسفة ماركس تتخذ شكلًا أكثر قوة ووضوحًا، حيث دمج ماركس المنهج الديالكتيكي المستمد من أفكار هيجل عن كيفية التغيير، مع المنهج المادي (والمبني على أن الأفكار تستمد قوتها من واقعيتها).
أطلق ماركس على هذا المزيج الجديد: مصطلح المادية التاريخية أو المادية الديالكتيكية ! ومن هنا قام ماركس وإنجلز، باعطاء البشرية فهما ماديًا للتاريخ، من خلال وضع مذهب وفلسفة شاملة عن التطور لتشمل الحياة الاجتماعية وتطبيقها على تاريخ وتطور المجتمعات، وكان أكبر تعبير عن هذا المذهب الجديد هو ما حدث بعدها.
كارل ماركس والبيان الشيوعي: ثورة بلا قائد
أصدرت عصبة الشيوعيين Der Bund Kommunisten (حزب سياسي شيوعي أنشئ في لندن عام 1847) عام 1848 بيانًا بأهدافها وأطلقت عليه اسم “البيان الشيوعي” حيث كتبه اثنان من أبرز قادتها وهما ماركس وإنجلز وتزامن صدور هذا الكتيب مع اندلاع ثورات كبرى شملت أغلب القارة الأوروبية.
استهل البيان بكلمات حماسية تنذر بالخطر:
“إن شبحًا يطارد أوروبا، ذلك هو شبح الشيوعية، وقد عقدت الدول الكبرى حلفًا مقدسًا لإبعاد هذا الشبح: وهو حلف يشترك فيه البابا والقيصر“.
وقد كان عام 1848 فعلًا عامَ رعب بالنسبة للنظام القديم السائد في أوروبا (القائم على الملكية الخاصة والنظام الإقطاعي) حيث هب العمال في باريس في ثورة بلا قائد ولا تنسيق، وكذلك كان الأمر في في إيطاليا وبرلين وعدد من دول أوروبا التي انتفضت فيها الجماهير!
وانطلاقًا من تحليل مادي للتاريخ، يشرح البيان أن الطبقات الاجتماعية هي نتاج التطور الاقتصادي وأن مسار التاريخ كله يقوم على الصراع بين الطبقات، ففي مجتمعات الرقيق القديمة، كان هناك صراع بين العبيد وملاكهم، ثم انتقل الصراع في النظام الإقطاعي بين الفلاحين وملاكِ الأراضي، ثم أنتجت الثورة الصناعية صراعًا آخر، لكن هذه المرة كان صراعا بين العمال وملاك وسائل الإنتاج، هذا الصراع ضروري ولا يمكن تجنبه، أما نتائجه فتكون إما تغييرات ثورية لصالح طبقة ما أو خراب مشترك للجميع.
لذلك كانت ألفاظ البيان واضحة:
“إن الشيوعيين يحتقرون إخفاء آرائهم وأغراضهم، إنهم يعلنون في صراحة أنه لا يمكن تحقيق غاياتهم إلا بقلب جميع العلاقات الاجتماعية القائمة وبقوة، فلترتعش الطبقات الحاكمة من الثورة الشيوعية، إذ ليس لجماهير البروليتارية (العمال) ما تفقده سوى أغلالها“.
لكن شيئًا لم يتغير!
فلم يثمر هذا البيان ثورة شيوعية كما كان المتوقع، بل كانت نتيجته مجرد صيحة تولدت من خيبة الأمل واليأس! فكان النظام القديم القائم على حق الملوك المقدس هو المسيطر والمتغلل في أنحاء أوروبا بل وفي روسيا نفسها التي كانت تعتبر حجر الزاوية في الاستبداد الأوروبي!
كانت الثورات التي قادها العمال ثورات بلا قادة تفتقر إلى التنظيم والهدف؛ لذا فقد حققت انتصارات مبدئية ثم وقفت لا تدري ما الخطوات القادمة، فاستجمع النظام القديم قوته وعاد ليحتل مكانه بقوة لا تقهر. انتهت الثورات وضربت الجماهير بالمدافع، كانت أحداثًا دامية وعنيفة! فقد كان الفكر الماركسي تحديًا خطيرًا للطبقات الحاكمة لأنه يستهدف تغيير الواقع، خاصة مع الانتشار السريع له نتيجة التحرر من القيود الكنسية في الدول الصناعية المتقدمة كروسيا وألمانيا.
رأس المال : ملحمة لا كتاب
في خمسينيات القرن التاسع عشر، أصاب الفقر ماركس وعائلته، حيث عاشت أسرته في شقة رخيصة بواحدة من أفقر مناطق لندن. نقل بؤس تلك المعيشة مخبر الشرطة المكلف بمراقبته قائلًا: “كل شيء قذر، كل شيء مليء بالتراب، أصبح الجلوس عملًا خطيرًا في ذلك المنزل، حيث أن الكراسي لها ثلاثة أرجل فقط!“، وعن ماركس نفسه قال: “مضياف للفقراء، يحيا حياة الغجر، الاغتسال وتغيير الملابس الداخلية من الأمور النادر القيام بها، دائم السُّكر والتسكع إلا إذا كان لديه عمل يقوم به فكان يصل الليل بالنهار”.
العجيب أن ماركس لام الطبقة البرجوازية على الحال المتردي الذي وصل إليه بالرغم أن الأموال التي كانت تأتيه من صديقه إنجلز ومن عائلة زوجته جيني وكذلك من مقالاته المنشورة كانت تكفيه لحياة رغيدة وسط الطبقة الوسطى! في تنصل كامل من المسؤولية.
على إثر ذلك، لم يجد ماركس مهربًا إلا دفن نفسه في أكوام من النصوص الاقتصادية بالمتحف البريطاني في لندن، فقرأ ماركس كل ما وقعت عليه يداه من كتب اقتصادية، وطوال ثمانية عشر عامًا (1850-1867) كان يكتب مسودات كتابه الذي أسماه: “رأس المال”Das Kapital .
كان ماركس دقيقًا وبطيئًا جدًا في الكتابة، فرغم تشجيع إنجلز له على تغييره لإيقاع كتابته البطيء إلا أن ذلك كان بلا جدوى، فقد استغرق ماركس عامين كاملين ليصدر المجلد الأول من كتابه، ليفارق الحياة عام 1883 قبل أن ينشر باقي أجزاء الكتاب، لكن لحسن الحظ، فقد جمع صديقه إنجلز الكثير المسودات التي لم ينشرها ماركس بعد، لينشر المجلد الثاني من كتاب صديقه الراحل عام 1885 والمجلد الثالث عام 1894، أما المجلد الرابع والأخير فلم ينشر إلا في عام 1910.
كتاب رأس المال سِفْر ضخم عظيم يضم 2500 صفحة، استشهد فيها كارل ماركس بأكثر من 1500 كتاب، وتتنقل في صفحات كتابه بين أسلوب رياضي مليء بالدقة، وآخر عاطفي مليء بالغضب والضيق!
كان الكتاب ملحمة يقف فيها بطلا دراما الثورة الصناعية وجهًا لوجه: العامل والرأسمالي.
قسم الكتاب إلى ثلاث أقسام:
- القسم الأول: مدخل إلى الرأسمالية
يوضح فيها ماركس فكرته عن السُّخرة، في تحليل نقدي للاقتصاد السياسي، والصراع الطبقي المتجذر في العلاقات الاجتماعية الرأسمالية.
- القسم الثاني: قواعد الحركة الرأسمالية التي ستؤدي حتمًا لانهيارها
حيث شرح فيه هذه القواعد وكذلك الأفكار الرئيسية المؤسسة لاقتصاد السوق، حيث فسَّر كيفية تحقيق القيمة والفائض، وهو ما يُمثِّل أهمية كبيرة لفهم البناء النظري لحجة ماركس بأكملها.
- القسم الثالث: التكاليف النفسية للرأسمالية
حيث فسِّر فيها كيف يزداد بؤس الطبقات العاملة في النظام الرأسمالي.
ماذا أضاف “رأس المال” للاقتصاد؟!
سؤال جيد!
اليوم، يعتبر معظم الاقتصاديين أن نظريات ماركس الاقتصادية لا قيمة لها، فخلال فترة الكساد الكبير حاول برنارد شو George Bernard Shaw إقناع كينزJohn Maynard Keynes بمناقب ماركس فرد عليه الاقتصادي الكبير قائلًا:
مشاعري تجاه كتاب رأس المال هي نفس مشاعري تجاه القرآن، أعرف أنه مهم من الناحية التاريخية، وأعرف كثيرًا من الناس يرونه ملهمًا وأنه أعظم ما في الكون، وبالتأكيد ليس جميعهم أغبياء! لكن عندما أنظر فيه لا يمكنني تفسير سبب امتلاكه لهذا التأثير! كيف يمكن لأي من الكتابين أن ينتشر في نصف العالم؟ أعجز عن فهم هذا، من الواضح أن هناك بعض الخلل في فهمي! هل تصدق كلًا من رأس المال والقرآن؟! أو حتى رأس المال فقط؟! أنا متأكد أن قيمته الاقتصادية المعاصرة (بغض النظر عن بعض الومضات من البصيرة) تساوي صفرًا!
لم تكن كتابات ماركس إيذانًا بولادة الشيوعية بقدر ما كانت تنبيهًا للرأسمالية حتى لا تسقط، فمع كل ركود للصناعة كان يتجدد أمل الشيوعيين بميلاد الثورة إلا أن ما كان يحدث هو أن النظام الرأسمالي يخرج من أزمته بحيوية أكثر. كان الاتحاد السوفيتي والصين آخر الدول الشيوعية الكبيرة التي ادَّعت كونها ماركسية، وحتى الآن لم يحقق أي بلد الماركسية كما يحلم الماركسيون، ربما لأنها كانت تعد بأكثر من الموجود في العالم الحقيقي! وربما لأن ماركس نفسه اكتفى في كتاباته بالتنبؤ بسقوط الرأسمالية، ولم يتجاوز ذلك ليحدثنا عما وراءه من معالم الجنة الموعودة في الشيوعية الخالصة!
(1) Saul K. Padover, Karl Marx: An Intimate Biography (New York: McGraw‐Hill, 1978), p. 179.
المصادر
- روبرت هيلبرونر: قادة الفكر الاقتصادي، ترجمة: راشد البراوي، مكتبة النهضة المصرية
- تود جي باكولز (2013): أفكار جديدة من اقتصاديين راحلين، ترجمة كوثر محمود محمد، حسين التلاوي، دار النشر: كلمات عربية للترجمة والنشر
- Keynes, J. (1978). KEYNES AND KINGSLEY MARTIN.
- E. Johnson & D. Moggridge (Eds.), The Collected Writings of John Maynard Keynes. Royal Economic Society.
- https://www.youtube.com/watch?v=QFYz-rf22aU
- https://www.theguardian.com/books/2005/sep/28/fiction.shopping
- http://revsoc.me/theory/lbyn-lshywy-hl-f-lyh-lzmn