الاقتصاد بين النظرية والتطبيق
المعرفة النظرية وحدها لا تكفي رغم أهميتها، فهي وسيلة تساعدنا على فهم الواقع لا غير. لذا، سنبدأ سلسلة جديدة نُسقِط فيها ما تعلمناه من مواضيع نظرية على العالم الذي نعيشه اليوم.
تحدثنا في مقالات سابقة عن الموازنة العامة للدولة وكيف يتم إعدادها وعن الحالات التي يمكن أن تكون عليها من عجز وفائض. ثم تفرعنا بعدها لتناول عجز الموازنة في مقالين؛ كان أولهما عن طرق تقليص عجز الموازنة، وثانيهما عن استخدام الدين العام كطريقة لسد العجز. أما في هذا المقال فسنتعرف على أشهر أزمات تدبير الموازنة العامة في العقد الأخير؛ وهي تجربة اليونان.
عندما يتعلق الأمر بزيادة المصروفات تحتل اليونان المركز الأول لتفوز بالميدالية الذهبية في مسابقة أسوأ إدارة للمال العام، فقد أنفقت اليونان 9 مليار يورو تقريبًا لتنظيم الألعاب الأوليمبية على أرضها عام 2004، دون احتساب الاستثمارات التي تمت على البُنى التحتية ذات المردود المنخفض على المدى البعيد؛ كالملاعب، على الرغم من أن الميزانية المعلن عنها قبل البدء في التجهيزات كانت تعادل النصف تقريبًا، لهذا يعتبر الكثير من المحللين استضافة الأولمبياد عاملًا محفزًا للكارثة التي حدثت فيما بعد وتسببت في نزول المواطنين إلى الشوارع والتهديد بالانسحاب من منطقة اليورو.
وكي نستوعب حجم الأزمة يجب أن نعود بذاكرتنا إلى الوراء قليلًا.
اليونان ومنطقة اليورو
في عام 2001 وعقب عدة محاولات انضمت اليونان إلى ما يُعرَف بمنطقة اليورو لتصبح العضو الثاني عشر، ومنطقة اليورو عبارة عن اتحاد نقدي تستعمل فيه الدول الأعضاء نفس العملة )اليورو( ويكون لها سعر الصرف نفسه في كل الدول الأعضاء، وذلك بعد أن استوفت شروط معاهدة ماسترخت التي تنصّ على ألا يتجاوز عجز الموازنة 3% من إجمالي الناتج المحلي في السنة السابقة للانضمام.
فما أن انضمت اليونان لمنطقة اليورو حتى واصلت زيادة عجز موازنتها حيث وصلت نسبة العجز من إجمالي الناتج المحلي في عام 2002 إلى 6%، وفي عام 2003 إلى 7.8 %، ثم قفز إلى 8.8% في عام 2004. لكن كل هذا الإسراف في الإنفاق كان يتم في الظل، فقد صرَّح وزير المالية اليوناني عام 2004 بأن الإحصاءات التي تقدمت بها بلاده كانت ملفقة، فعلى سبيل المثال: في عام 2000 كان عجز الموازنة في اليونان 4.1 % من إجمالي الناتج المحلي مما يتجاوز الشروط التي تُطبق على أعضاء منطقة اليورو.
ورغم أن الحكومة اليونانية قد بدأت في تخفيض إنفاقها بعد تنظيم الألعاب الأولمبية فإن الأزمة العالمية سنة 2008 كانت القشة التي قصمت ظهر اليونان. فقد بدأ بعدها عجز الموازنة في الارتفاع مرة أخرى في الأعوام التالية للأزمة ليصل إلى قمته بحلول عام 2009 بنسبة وصلت إلى 15.2%.
هنا يتضح لنا أن تنظيم الأولمبياد لم يكن سببًا أصيلًا في مشكلة عجز الموازنة اليونانية، وأن هناك أسبابًا أخرى تستدعي سردها.
أسباب زيادة عجز الموازنة اليونانية
كما ذكرنا في مقالنا عن حالات الموازنة العامة فإن عجز الموازنة يحدث عند زيادة النفقات عن الإيرادات العامة، وهي الحال التي كانت عليها موازنة اليونان، فقد عانت من زيادة كبيرة في نفقاتها العامة مع انخفاض شديد في الإيرادات.
زيادة النفقات العامة
يمكن ملاحظة الازدياد الكبير في نفقات الحكومة اليونانية منذ استلام الحكومة الاشتراكية زمام الأمور عام 1981م حيث أسست هذه الحكومة خطتها على رفع مستوى المعيشة للأفراد اليونانيين، لكن التطبيق عانى من مشكلتين أساسيتين:
- رفع متوسط الأجور للأفراد العاملين في القطاع العام وزيادة الحوافز. ففي العقد السابق للأزمة اليونانية زادت حصة المصروفات المخصصة للأجور والحوافز في القطاع العام كنسبة من المصروفات الحكومية بشكل كبير، فوفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، جاءت اليونان في المركز الأول في ترتيب دول المنظمة من حيث حجم المصروفات على الإدارة العامة.
- عدم كفاءة نظام المعاشات: حيث تُعَدُّ اليونان الدولة الأعلى في مجموعة دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من حيث حجم المعاشات التي تدفعها والتي وصلت إلى 17.5% من إجمالي الناتج المحلي.
انخفاض الإيرادات العامة
وقد كان السبب الرئيسي في ذلك هو حجم التهرب الضريبي الكبير الذي يُعَدُّ مشكلة حقيقية بالنسبة لليونان. فاليونان ومعها إيرلندا تعتبران أقل دولتين في منطقة اليورو من حيث العائدات الضريبية فقد بلغ حجم ما حصلته الحكومة اليونانية 30% فقط مما يفترض جمعه في عام 2008، وهنا نرى دور الفساد الإداري في أجهزة الحكومة في المساهمة في التهرب الضريبي وتعميق الأزمة بشكل أكبر.
الحل السحري: الاستدانة
حتى تستطيع الحكومة توفير النفقات اللازمة والتغلب على نقص الموارد بدأت في الإسراف في الاقتراض من أسواق المال عن طريق سندات الخزانة، وسند الخزانة عبارة عن ورقة مالية تستدين بموجبها الحكومة من الدول والمؤسسات المالية الكبرى، حيث تلتزم الحكومة برد هذا الدين إضافة إلى فائدة محددة مسبقًا، أما مبلغ الفائدة على هذه الدين فيطلق عليه خدمة الدين أي الجزء المخصص لسداد فوائد الديون من مصروفات الموازنة. أما عن قيمة هذه الدين، فنلجأ عادة إلى الاعتماد على نسبة الدين من الناتج الإجمالي، فقد بلغت هذه النسبة 180% عام 2015؛ أي أن اليونانيين يجب أن يدفعوا كل إنتاج اليونان خلال حوالي سنة وعشرة أشهر إذا أرادوا سداد الديون المتراكمة عليهم.
هنا يتضح جليًّا إسهام الاستدانة المفرطة وغير المنتجة في تفاقم عجز الموازنة، فكلما زاد العجز زادت الحاجة إلى الاستدانة، وكلما زادت الاستدانة زادت خدمة الدين، وكلما زادت خدمة الدين زادت المصروفات، وكلما زاد المصروفات زاد عجز الموازنة؛ لنبدأ من جيد في الدائرة المفرغة التي تبدأ بالاستعانة بالاستدانة لتخفيف عجز الموازنة العامة.
التقشف: الملجأ الأخير أم رصاصة الرحمة؟
حتى يتم إنقاذ الموقف، قام زعماء منطقة اليورو يُمثِلهم البنك المركزي الأوروبي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي بتجهيز خطة إنقاذ لليونان حيث تحميها من العجز عن الوفاء بديونها، وقد كانت خطة الإنقاذ كالتالي:
بدءًا من مايو 2010 قام كلًا من البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي بمنح الحكومة اليونانية عدة قروض وصلت قيمتها إلى 240 مليار يورو، حيث تُقدَم هذه القروض على دفعات تستمر حتى عام 2016) من سيسدد هذه القروض حينها؟ وكيف سيكون ذلك ممكنًا؟ تابع القراءة لتعرف(، كما قام البنك المركزي الأوروبي في يونيو 2010 بشراء سندات خزانة حكومية يونانية بما يُقدَّر بــ 45 مليار يورو لدعم ثقة المستثمرين في الحكومة اليونانية.
في المقابل، كان على الحكومة اتباع مجموعة من الإجراءات التقشفية لتقليل عجز الموازنة بمقدار 5% في 2010 ثم بمقدار 4% أخرى في 2011، وذلك عن طريق:
- خفض أجور العاملين بالقطاع العام وتقليل المكافآت.
- ترشيد الإنفاق على قطاع الصحة.
- تقليل عدد العاملين بالقطاع العام.
- تحسين أداء الشركات المملوكة للدولة.
- بيع المؤسسات المملوكة للدولة للقطاع الخاص أو ما يعرف بــ”الخصخصة”.
- هذا بالاضافة إلى زيادة الضرائب على البنزين والتبغ ورفع أسعار الكهرباء.
ولكن مع الأسف لم تستطع الحكومة الوصول لهدف البرنامج حيث وصل عجز الموازنة في 2010 إلى 11.2% وفي 2011 إلى 10.2 % من إجمالي الناتج المحلي.
أما عن رد فعل اليونانيين، فقد نزل المواطنون في مظاهرات غاضبة رافضة لهذه الإجراءات التقشفية.
ولكن إجراءات التقشف استمرت حتى وصل عجز الموازنة في 2014 إلى 3.6%، ولكن مع استمرار غرق اليونان بالديون عاد عجز الموازنة مرة أخرى ليصل إلى 7.2% في 2015، كما عجزت عن تسديد الدفعة الأولى من قرض صندوق النقد الدولي في يونيو 2015 وتُعَد ثاني دولة تعجز عن سداد ديونها بعد زيمبابوي، ليسجل بهذا حل زعماء الاتحاد الأوروبي فشلًا ذريعًا.
الدرس اليوناني
بعد أن تعرفنا على تجربة اليونان، بدا جليًا الضرر الذي يمكن أن يسببه الإسراف في الإنفاق والاستدانة على الاقتصاد، لكن لا يمكن الجزم بأن ما حدث لليونان سيحدث لكل الدول التي تزيد مصروفاتها وتعتمد على الاستدانة بشكل كبير، فالمشكلة في الحالة اليونانية تكمن في الاعتماد التام والتواكل على كونها جزءًا من كيانات قوية ولها نفوذ مثل الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، إضافة إلى تجاهل أهمية محاربة الفساد الحكومي وترشيد النفقات وذلك لاعتمادها الكامل على عضويتها في الاتحاد الأوروبي للحصول على ديون قد تبدو كحلٍ سحري لمشكلة لم تعالج أسبابها بشكل عميق، لكنها تبقى في النهاية سُمًّا في العسل.