ميزان المدفوعات … كما لم تفهمه من قبل
هل تذكر عندما تحدثنا في مقالات الموازنة وعرَّفناها على أنها الفرق بين إيرادات الحكومة ومصروفاتها، أي الفرق بين الأموال التي تدخل إلى ميزانية الحكومة (الإيرادات) والأموال التي تخرج منها (المصروفات)؟
دعونا نطرح سؤالًا بسيطًا: هل يمكن تطبيق الأمر على اقتصاد الدولة بأكمله وليس الحكومة فقط؟
الإجابة: نعم
يمكننا فعل هذا عن طريق حساب كفتي ميزان آخر لا يقلان أهمية عن كفتي الموازنة، ويعرف هذا الميزان عند الاقتصاديين على أنه “ميزان المدفوعات”. وهو الميزان الذي يمكن من خلاله حساب الفرق بين الأموال التي تدخل الاقتصاد ككل والتي تخرج منه.
وكما عرفنا الموازنة تفصيليًا في مقالاتها وتعرفنا إلى أهميتها ومكوناتها، نقوم بالأمر ذاته مع ميزان المدفوعات، فنتعرف في هذا المقال على ماهيته، أهميته ومكوناته.
ما هو ميزان المدفوعات؟
كما ذكرنا في مقدمة هذا المقال أن هناك أموالًا تخرج من الاقتصاد وأموالًا أخرى تدخل إليه، وتقوم الدولة بتسجيل حركة هذه الأموال (دخولها وخروجها) في بيان يُسمى “ميزان المدفوعات”. كيف تتحرك الأموال من الدولة وإليها إذن؟
دعونا نبدأ ببعض الأمثلة:
لنفترض أن الشركة (أ) مصرية الجنسية قامت بشراء طن من القمح من الشركة (ب) أمريكية الجنسية في مقابل 200 دولار، فتتسلم الشركة (أ) طن القمح وترسل 200 دولار للشركة (ب).
عندما أرسلت الشركة المصرية 200 دولار إلى الشركة الأمريكية واستلمت القمح في مقابلها، حدث التالي:
- خرجت 200 دولار من الاقتصاد المصري، فقامت الحكومة المصرية بتسجيلها ميزان مدفوعاتها (-200) واردات.
- دخلت 200 دولار إلى الاقتصاد الأمريكي وسُجِلَت من قِبل الحكومة الأمريكية في ميزان مدفوعاتها (+200) كدخل (ربح) حققته الشركة الأمريكية.
العملية هنا واضحة وبسيطة. حدث تبادل تجاري بين شركتين من دولتين مختلفتين. فقامت حكومتا الدولتين بتسجيل خروج/دخول الأموال الناتجة عن هذا التبادل في ميزان مدفوعاتها.
بالطبع لا يتوقف الأمر عند تبادل السلع والخدمات. بل هناك عمليات أخرى ينتج عنها انتقال الأموال من اقتصاد لآخر. بل إن هناك عمليات أخرى ينتج عنها خروج الأموال من اقتصاد دولة ودخولها إلى اقتصاد دولة أخرى.
لنفترض أنك مهندس مصري تعمل في السعودية. استلمت راتبك في نهاية الشهر وحولت منه 500 دولار إلى أسرتك في مصر. هذا يعني أن 500 دولار قد خرجت من الاقتصاد السعودي ودخلت إلى الاقتصاد المصري. وبالتالي:
- عند خروج 500 دولار من الاقتصاد السعودي، قامت الحكومة السعودية بخصم 500 دولار (-500) من ميزان مدفوعاتها. باعتبارها تحويلًا مباشرًا من مواطن سعودي إلى مواطن مصري.
- عند دخول 500 دولار إلى الاقتصاد المصري، قامت الحكومة المصرية بإضافة 500 دولار (500+) إلى ميزان المدفوعات الخاص بها. باعتبارها تحويلًا مباشرًا من مواطن سعودي إلى مواطن مصري.
الأمر يحدث أيضًا عندما تقوم إحدى الدول الغنية أو المتقدمة بإرسال إعانات أو منح لإحدى الدول الفقيرة أو عندما تصبح غنيًا كفاية لأن تملك استثمارًا في دولة أخرى (عن طريق إنشاء شركة في هذه الدولة) فإنك ترسل أموالك إلى هذه الدولة الأجنبية حتى يتم إنشاء الشركة، وحتى عندما تحقق شركتك هذه أرباحًا يجري تحويل هذه الأرباح إليك.
الخلاصة هنا، أنه تُسجَّل كل المبادلات التي تحدث بين الأفراد والشركات والحكومة في بلدك، والأفراد والشركات والحكومة في بلد أخرى في ميزان مدفوعات كل دولة على حدة. حيث إن ميزان المدفوعات لا يسجل المعاملات بالاستيراد والتصدير فقط، ولكن أيضًا يسجل المعاملات الخاصة بالتحويلات بين الأفراد (مثال المغترب الذي ذكرناه) والمؤسسات (إعانة من الأمم المتحدة إلى إحدى الدول الفقيرة) إضافة إلى انتقال أرباح (الدخل) فروع الشركات العالمية إلى الشركة الأم.
ففي كل هذه الحالات خرج مبلغ من المال من اقتصاد ما ليدخل اقتصادًا آخر وبالتالي تقوم الحكومة التي خرجت منها الأموال بخصمها من ميزان مدفوعاتها، وتقوم الحكومة التي دخلت إليها الأموال بإضافتها إلى ميزان مدفوعاتها.
بناءً على كل هذا يعُرِّف الاقتصاديون ميزان المدفوعات على أنه:
السِجِل الذي يلخص كل التبادلات التي يقوم بها الأفراد، الشركات والمؤسسات الحكومية في بلد ما مع الأفراد والشركات، والمؤسسات الحكومية في باقي أنحاء العالم.
يبقى السؤال هنا: كيف تُسجَل هذه العمليات؟ هذا ما سنعرفه في بقية المقال.
مم يتكون ميزان المدفوعات؟
في البداية، كانت المعاملات المالية بين الدول في العالم يُعبًّر عنها بالواردات والصادرات السلعية فقط. وكانت المعاملات الناتجة عن استيراد السلع وتصديرها تُسجَل في حساب يُعرَف باسم “الميزان التجاري”.
ولكن مع تطور التبادلات التجارية بين الدول، ونشأة الشركات العابرة للقارات (أي التي تستثمر في دول أخرى بإنشاء مصانع فيها لتستفيد من الأجور الزهيدة والقرب من أسواق مختلفة، حيث يمكن لشركة أمريكية إنشاء مصنع في مصر لكي تبيع منتجاتها إلى الدول الأفريقية مقللة بذلك مصاريف الشحن)، وتطور أسواق المال العالمية (كالبورصات) حيث يمكن أن يشتري مواطن أمريكي أسهمًا من بورصة لندن في دقائق معدودة. وتطور المؤسسات المالية والبنكية لتسهل انتقال الأموال بين الدول. لم تعد التبادلات بين الدول قاصرة على تبادل السلع فقط بل أصبحت التبادلات بين الدول أكثر تنوعًا وأصبح من الضروري تسجيلها بشكل دقيق، مما استدعى ظهور ما يُسمى الآن بميزان المدفوعات.
فما هي مكوناته؟
إجابة هذا السؤال ليست نهائية. فرُغم أن كل الدول تستخدم ميزان المدفوعات لنفس الهدف، إلا أن طريقة تسجيلها للأموال التي تدخل وتخرج من اقتصادها في ميزان المدفوعات تختلف اختلافات طفيفة حسب الدول. لكن بشكل عام، يتكون ميزان المدفوعات من جزأين أساسيين:
- الحساب الجاري
- الحساب المالي والرأسمالي
لكل حساب من هذه الحسابات مهمة محددة وطرقًا للحساب سنتطرق لها بالتفصيل في المقالات القادمة.
بالطبع، فحساب كل الأموال التي تدخل إلى الاقتصاد وتخرج منه أمر غاية في الصعوبة ويتطلب مجهودًا كبيرًا ونظامًا شاملًا يلم بكل التبادلات التي يمكن أن تحدث بين اقتصادين. لذا فقد يبدو للبعض أن ميزان المدفوعات مفهوم معقد ومليء بالتفاصيل التي لا يمكن الإلمام بها.
إذا كنت من هؤلاء فيجب أن تسأل نفسك سؤالًا واحدًا: منذ متى كان تعقيد المفاهيم وكثرة التفاصيل المتعلقة بها تحديًّا لنا في ألف باء اقتصاد؟
في المقالات القادم سنسبر أغوار تفاصيل هذه الحسابات والهدف منها فانتظرونا.
شكرا جزيلا لكم …. تشرحون المواضيع الاقتصادية بطريقة مبسطة جدا.