أفكار اقتصادية لفلاسفة غابرين … الفكر الاقتصادي عند قدماء اليونان
شغلت المشاكل الاقتصادية حيزًا كبيرًا من اهتمام الناس على مر التاريخ، فالاقتصاد بطبيعته لا يُفرِّق في أهميته ومدى تأثيره بين الكبير والصغير، ولا الغني والفقير، فلكلٍ مشاكله الاقتصادية ولكل طريقة تفكيره التي يحاول بها مواجهة هذه المشكلات. الأمر نفسه بالنسبة للمفكرين فلن تجد مفكرًا أو فيلسوفًا أو رجل دين لا تشغل باله عدة مشكلات اقتصادية وكيفية حلها. ومع أن الاقتصاد لا يزال شابًا كعلمٍ – بمفهومنا اليوم عن العلوم – ومجال دراسة، إلا أن العديد من المفكرين أسهموا بأفكار اقتصادية هامة كانت اللبنات الأولى التي أسس عليها الاقتصاديون المعاصرون علم الاقتصاد الذي ندرسه اليوم.
في سلسلة المقالات هاته، سنتجول بين صفحات كتب التاريخ، لنزور فترات زمنية مختلفة ونقف على الأفكار الاقتصادية للمفكرين والفلاسفة ورجال الدين الذين عايشوها، غير غافلين بالطبع عن الظروف التاريخية التي أثرت في أفكارهم بهذا الشكل.
المحطة الأولى: اليونان القديمة
اعتبر القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد الفترة الذهبية للحضارة الغربية، ففي ظلها عاش أهم الفلاسفة الذين كوَّنوا بعد ذلك الأساس الفكري التي انطلقت منه الحضارة الغربية في فنونها وعلومها. ورغم عدم خضوع هذه الأفكار للمنهج العلمي المستخدَم حاليًّا، إلا أنها كوَّنت حجر الأساس الذي انطلق منه الفكر الاقتصادي الغربي السائد الآن.
ورغم أنك لن تجد – غالبًا – في كتابات الفلاسفة اليونان استخدامًا مباشرًا للفظة “اقتصاد” إلا أنك سنلاحظ إشارتهم إلى “إداراة المنزل” أو “فن إدارة المنزل وتدبيره”، ومع أن تطرقهم للمفاهيم المتعلقة بالاقتصاد كان فرعًا عن الكلام في مسائل إدارة الدولة وشئون المجتمع إلا أنه يمنحنا نظرة شاملة عن أفكارهم المتعلقة بالشئون الاقتصادية.
وبالطبع، قبل أن نتطرق للأفكار الاقتصادية للفلاسفة اليونان علينا أن نكون ملمين بالظروف التاريخية التي عاشوا فيها ليتسنى لنا فهم كيفية تأثير هذه الظروف في نشأة فكرهم الاقتصادي.
صعود وانهيار الإمبراطورية اليونانية
في البداية لم تكن اليونان دولة موحدة كما نعرفها اليوم، ولا حتى كالإمبراطوريات الشهيرة التي عرفها التاريخ، بل كانت مجموعة من المدن والدويلات (كأثينا وإسبرطة وطيبة وغيرها) التي عاشت عالمها الخاص تتصادق وتتصارع، تتحالف وتتقاتل بل وتستعدي قوى خارجية لتحقيق أهداف إقليمية.
وصلت هذه المدن إلى ذروة إنتاجها الفكري في العصر الذي أطلق عليه فيما بعد “العصر الكلاسيكي” وكان في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد، وشهدت تقدمًا حضاريًا يونانيًا في المجالات كلها. ورغم ذلك فقد تزامنت هذه الفترة مع الحروب الأهلية بين هذه المدن بالإضافة إلى محاولات الغزو الخارجي من الفرس، وكان لهذا الغزو الدور الأكبر في تشكّل الإمبراطورية الأثينية التي سيعيش في جنباتها معظم الفلاسفة الذين سنتحدث عن فكرهم الاقتصادي.
رب ضارة نافعة: الغزو الفارسي وتشكيل الامبراطورية الأثينية
بعد العديد من المناوشات العسكرية التي حاول الفرس فيها إحكام سيطرتهم على المدن اليونانية، كانت الموجة الأولى من المواجهات بين الإمبراطور الفارسي “قورش”[1] والعديد من المدن اليونانية، وبعد كر وفر نجح الأثينيون بقيادس “ملتيادس”[2] من دفع الخطر الفارسي وتحقيق انتصار كبير لليونانيين. كان لهذا الانتصار الفضل في الدفع بباقي المدن اليونانية المحتلة من الفرس إلى محاولة التحرر. ولأنه لا بد لكل ثورة من قائد، فإن المدن اليونانية كانت تطمح إلى قيادة توحد مجهوداتها وتدفعها نحو التحرر من الاحتلال الفارسي.
في هذه الفترة، ظهرت مدينتان مرشحتان للتنافس على القيادة؛ أثينا واسبرطة، لكن أثينا كانت الأكثر جاهزية لذلك للعديد من الأسباب السياسية والاقتصادية والعسكرية:
- سياسيًا: مع مطلع القرن الخامس قبل الميلاد، طبقت أثينا نظامًا سياسيًا ديموقراطيًا شعبيًا يرتكز في الأساس على التشاور وتداول السلطة، بين الرجال البيض على الأقل، مما جعلها أكثر شعبية بين المدن اليونانية.
- اقتصاديًا: اعتمد الاقتصاد الأثيني في معظمه على حركة التجارة، تجارة ستكون المستفيد الأكبر من تحرر المدن اليونانية المحتلة. وكانت أثينا هي القادرة على إمداد هذه المدن إن تحررت بالموارد الاقتصادية التي ستحتاجها بعد التحرر.
إضافة إلى ذلك، امتلكت أثينا أسطولًا بحريًا ضخمًا عزز من قوتها العسكرية ومكَّنها من مواجهة الجيوش الفارسية بنجاح.
ولم تنتظر أثينا كثيرًا للاستفادة من هذه المقومات. فمع بداية عام 478 ق.م، بدأت في تكوين حلف يجمع أغلب المدن اليونانية المجاورة؛ لتكوين جيش استطاع القيام بسلسلة من المعارك والتحركات العسكرية التي نجحت في إبعاد الفرس عن شواطئها. لكن، بمجرد انحسار الخطر الفارسي بدأت بعض المدن اليونانية المشاركة في الحلف تشعر بأن دوره ومبرر وجوده قد انتهى وحاولت الخروج منه للإفلات من التزاماته، لكن أثينا لم تكن لتسمح بهذا، فالمصالح الاقتصادية والتجارية التي كانت ستجنيها من تحويل حلفها هذا إلى إمبراطورية أثينية دفعها إلى منع بعض المدن التي حاولت الخروج من الحلف من ذلك بالقوة العسكرية.
تمكنت الإمبراطورية الأثينية من تحقيق النتائج المرجوة من تكوينها، ففي عصر حكم الإمبرىاطور بركليس الذي دام لثلاثين عامًا أحكمت السيطرة العسكرية الأثينية على المدن المجاورة لها إضافة إلى أنها شهدت ازدهارًا اقتصاديًا كبيرًا نتيجة لغنائم الحرب وازدهار التجارة. هذا الازدهار الاقتصادي انعكس على شتى مناحي الحياة، فشهدت هذه الفترة تقدمًا في الحركة الفكرية بدت آثارها واضحة في ظهور عدد من الفنانين الكبار والمفكرين الذين عرفوا بالسفسطائيين – أي المشتغلين بالحكمة – إضافة إلى تشييد عدد كبير من المعابد والأبنية العامة.
الصراع على السلطة وانهيار الإمبراطورية الأثينية
لاقت اتجاهات أثينا لتشجيع الأحزاب الديمقراطية في المدن اليونانية معارضةً شديدة من مدينة إسبرطة، كانت تلك المعارضة مدفوعة برغبتها في الحفاظ على مصالحها الاقتصادية الزراعية التي تتعارض مع مصالح الطبقات التجارية والصناعية والاتجاهات الديموقراطية الأثينية. وهكذا ظهر نوع من التناقض الأساسي بين هاتين المدينتين الرئيسيتين في بلاد اليونان، سرعان ما انفجر إلى صراع مسلح عندما وجدت أثينا نفسها في حاجة إلى أسواق جديدة إلى جانب أسواق بحر إيجة.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف، اتجهت أثينا بنشاطها التجاري إلى المياه الغربية لأثينا على بحر مرمرة وكادت تكتسح المصالح التجارية لحلفاء إسبرطة وتهدد اقتصادها، ورغم أن إسبرطة لم تكن لها مصالح تجارية في الغرب إلا أنها استجابت لنداء حلفائها وهكذا بدأ الصدام المسلح بين المدينتين الذي قُدِّر له أن يستمر لثلاثة عقود.
وبعد الانتصار الإسبرطي الساحق على أثينا في سنة 404 ق م بدأت سيطرة إسبرطة على كل المدن التي كانت تُشكِّل الإمبراطورية الأثينية إلى جانب الدول الأخرى. وبدا وكأن بلاد اليونان مقبلة على نوع من الوحدة أو الاتحاد وإن كان هذه المرة تحت السيطرة الإسبرطية بدلًا من السيطرة الأثينية، لكن هذا لم يحدث بل على العكس فإن القرن الرابع ق.م شكَّل بالنسبة لبلاد اليونان ولنظام دولة المدينة الذي سارت عليه ما يمكن أن نسميه عصر الفوضى أو عصر الانحدار.
في هذا العصر بدأت إسبرطة ومنذ انتصارها في 404 ق.م بإحكام سيطرتها على كل المدن التي كانت واقعة تحت حكم الإمبراطورية الأثينية من قبل إلى جانب المدن التي تحالفت معها أثناء حربها مع أثينا، ونتيجة لذلك تعرضت الحياة العامة داخل المدن اليونانية خلال القرن الرابع ق.م إلى خلل في أكثر من جانب من جوانبها، فعلى سبيل المثال: تعرضت الموارد الاقتصادية لهذه المدن إلى تناقص ظاهر بعد أن شهدت عهدًا من الازدهار منذ أواسط القرن السادس ق.م إلى نهاية القرن الخامس ق.م، وكان السبب في هذا هو أن بعض البلاد التي كانت تُشكِّل الأسواق الخارجية لبلاد اليونان، بدأت تطور منتجاتها لدرجة تكفي احتياجاتها من السلع التي كانت تستوردها من المدن اليونانية قبل ذلك بل وأخذت تنافس السلع اليونانية في الأسواق الأخرى.
أدى هذا الوضع الاقتصادي المتدهور إلى انتشار العمل كجنود مرتزقة بين اليونانيين، سواء في الجيوش الأجنبية أو في جيوش المدن اليونانية ذاتها وقد كان هذا الوضع من العوامل الأساسية في تدهور نظام دولة المدينة، وقد تعدى هذا الوضع الاقتصادي المتدهور إلى الجانب السياسي أيضًا فلم يعد الصالح العام هو الهدف بل أصبح هدف كل طبقة تأمين مصالحها الخاصة دون النظر إلى المصالح العامة للوطن وقد وصل هذا التسيب السياسي إلى مداه في أثينا عندما وصل الأمر بالمواطنين الأثينين أن يقدموا متعتهم الخاصة على صالح الدولة، فعندما كان الخطر المقدوني[3] على مشارف أثينا كان كل همهم الحصول على ما سُمي بإعانة المسرح، التي كانت تصرف للمواطنين المحتاجين من الأموال العامة حتى يتمكنوا من حضور الاحتفالات السنوية أو الموسمية بدلًا من استخدام هذه الأموال في التجهيز للدفاع عن أثينا أمام الخطر المقدوني.
كان الخطر المقدوني هو القشة التي قصمت ظهر البعير، فقد أدى الغزو المقدوني )334-323 ق م( إلى القضاء النهائي على نظام دولة المدينة اليونانية. فبعدما استطاعت هذه الدولة المقدونية غنية الموارد والواقعة إلى الشمال من بلاد اليونان مباشرة تحقيق وحدتها السياسية على يد الملك فيليب الذي اعتلى عرشها سنة 360 ق.م. تطلعت إلى السيطرة على بلاد اليونان وهكذا بدأ فيليب سياسة غزوٍ للمدن اليونانية منتهزًا انقساماتها المستمرة، وحين تنبهت أثينا وطيبة في نهاية الأمر ووحدا قواتهما العسكرية في وجه الغزو المقدوني، كان الوقت قد فات واستطاع الجيش المقدوني أن يُلحق بالقوات الأثينية والطيبية المشتركة هزيمة ساحقة، ووقعت كل بلاد اليونان تحت سيطرة فيليب، ولكن إذا كان المقدونيون قد غزوا بلاد اليونان عسكريًا فإن الثقافة اليونانية قد غزت مقدونيا حضاريًا.
كيف أثرت الظروف التاريخية على الفكر الاقتصادي للفلاسفة اليونان؟
كان الاقتصاد اليوناني في البداية اقتصادًا بدائيًا، حيث ينشغل رب الأسرة بتنظيم الموارد الخاصة بأسرته. هذا الاهتمام بالاقتصاد المنزلي جعل المشاكل الاقتصادية بسيطة والاهتمام بها محدودًا. أما المشاكل الاقتصادية الكبيرة، فلم تظهر إلا في وقت متأخر نتيجة تكون الإمبراطورية اليونانية وازدهار تجارتها والحصول على أراضٍ جديدة وغنائم الحرب بعد انتصاراتها العسكرية. لهذا السبب، فقد عُرف الاقتصاد في العصر اليوناني بـاسم “علم إدارة المنزل”.
أما المجتمع الإغريقي فقد كان قائمًا على العبودية والرق، لا يملك العبيد فيه الحق في الملكية الخاصة أو المشاركة السياسية. أما نظرة المجتمع إلى العمل اليدوي، فقد كانت نظرة احتقار من طرف المفكرين والفلاسفة لأنه عمل العبيد.
كل هذه العوامل أدت إلى عدم تكون بناء فكري مستقل عن الاقتصاد، كما كان الحال بالنسبة لعلوم أخرى. وبسبب محدودية الإسهامات الاقتصادية للفلاسفة اليونان، سنتناول في هذا المقال الأفكار الاقتصادية لأهم الفلاسفة الذين أسهموا في بداية ظهور الفكر الاقتصادي.
زينوفون (427-355 ق.م) وسؤال القيمة الاقتصادية
عرَّف زينوفون Xenophon، أحد تلاميذ الفيلسوف الشهير سقراط[4]، الاقتصادَ في أول كتبه “Oeconomicus – الاقتصاد” بأنه “فن إدارة المنزل” حيث ناقش فيه الكيفية المثلى لإدارة المنزل والنشاط الفلاحي الذي كان من أهم الأنشطة المُدرِّة للدخل في الحقبة الزمنية التي عاشها.
ويمكن اعتبار كتاب زينوفون من أوائل الكتب الذي ناقشت قضايا اقتصادية، والتي على الرغم من بساطتها؛ لكون الاقتصاد حينها كان اقتصادًا بدائيًا مقارنة باقتصادنا اليوم، إلا أنها حملت تساؤلات مهمة وبدأت نقاشات اقتصادية لا زلنا نخوضها حتى اليوم، فقد أعطى زينوفون اهتمامًا للعنصر البشري كأهم مورد اقتصادي وفضَّله على الموارد الطبيعية المادية؛ لأن الإنسان القادر على إدارة الموارد بكفاءة يُعدُّ بذلك الأكثر قدرة على مواجهة تحديات الظروف الطبيعية والتغلب عليها.
بالإضافة إلى ذلك، تطرق زينوفون إلى سؤال القيمة المحوري في النظرية الاقتصادية، حيث قسَّم قيمة الموارد الاقتصادية إلى قسمين : قيمة ذاتية وقيمة تبادل. وشرح بالاستعانة بمثال بسيط، كيف أن القيمة الذاتية (القيمة التي يعطيها الفرد للمورد الاقتصادي) تختلف عن قيمة التبادل (القيمة التي يعطيها المشترون في السوق لهذا المورد). فالحصان مثلا، قد لا يكون له أي قيمة ذاتية بالنسبة لشخص لا يعرف كيفية ركوبه أو الاعتناء به، لكن قيمته التباديلة كبيرة، لأن هناك العديد من الناس الذين يعرفون كيفية ركوبه والاعتناء به وبالتالي مستعدون لدفع ثمن كبير مقابل شرائه.
قضية القيمة هاته، شغلت الاقتصاديين بعده بشكل كبير، حيث أعطى اقتصاديون كبار أمثال: آدم سميث، دافيد ريكاردو وكارل ماركس طرقًا أخرى للنظر إلى القيمة وحسابها. فسؤال القيمة سؤال محوري لا بد من الإجابة عنه لبناء أي نظرية اقتصادية.
وكما هو الحال بالنسبة لكل الفلاسفة اليونان الذين أسهموا في تطور الفكر الاقتصادي، تساءل زينوفون في إطار فلسفي وأخلاقي، عن الكيفية التي يمكن أن يوفر بها الاقتصاد الرفاهية لأفراد المجتمع، السؤال الذي لا زلنا إلى يومنا هذا نحاول معرفة إجابته، فيبدو أن الفلسفة فعلًا هي أم العلوم
أفلاطون (427-327 ق.م) وتقسيم العمل
عاش أفلاطون Plato، ابن أثينا البار، بل أحد أشهر أبنائها، حياة مترفة كأحد أفراد عائلة استقراطية من أعرق العائلات الأثينية حيث عايش فترة ازدهار أثينا السياسية والثقافية. مع ذلك، فقد كان يطمح للمزيد. فقد دعى أفلاطون إلى تغيير النظام السياسي وإلى جعل الفلاسفة ملوكًا، حيث كان مؤمنًا بأن السياسة على يد الفيلسوف ستحول العالم تمامًا لاتجاه الخير.
كانت أفكار أفلاطون كما وضَّح أغلبها في كتابه “الجمهورية” متسقة مع تصوره للمدينة الفاضلة التي يُسيِّر شئونها طبقة من الفلاسفة العظام، ورغم أن كتابه هذا خُصص للمسائل السياسية كما يبدو من عنوانه، إلا أنه ناقش بعض المسائل الاقتصادية بالغة الأهمية.
فالدولة عند أفلاطون اقتصادية النشأة، حيث إن حاجات الانسان الاقتصادية هي التي دفعته لإنشاء جماعات سياسية، وبالتالي يكون دور الدولة هو تنمية الحرف والمهن لتشجيع النشاط الاقتصادي، والحالة المثالية التي يجب أن تكون عليها هذه الدولة “الفاضلة” تستلزم وجود نظام طبقي من ثلاث أقسام:
- الحكام والفلاسفة.
- الجنود والنبلاء.
- العمال، الحرفيين والفلاحين.
وضع أفلاطون تصورًا لهذه الطبقات الثلاث، حيث أوجد لكل طبقة دورًا محددًا تلعبه لازدهار الدولة، فالطبقة الأعلى (الحكام والفلاسفة) هي مجرد ركيزة من ركائز ثلاث للمدينة الفاضلة، لها ما لها وعليها ما عليها، فلا يجوز للحكام والفلاسفة القيام بنشاطات تهدف إلى جمع الثروة، مما يعني أن سعي الحكومة خلف الملكية الخاصة يؤدي حتمًا إلى فسادها وبالتالي إفساد المدينة الفاضلة.
وانطلاقًا من هذا التقسيم الطبقي للمجتمع، ظهرت عند أفلاطون أحد أهم الأفكار الاقتصادية: تقسيم العمل. حيث اعتبر أفلاطون أن هذا التقسيم فطري المنبع، حيث يتم على أساس المواهب والقدرات الفردية فكل فرد مجهز طبيعيًا لأداء حرفة أو مهنة معينة وبالتالي فخروجه عن هذه المهنة لن يكون عملًا أخلاقيًا، بل سيؤدي حتمًا إلى إلحاق الضرر به وبمجتمعه وبمدينته الفاضلة، وهو بذلك يرى أن الرِّق عنصرٌ دائم لا يمكن الاستغناء عنه في مدينته بشكل خاص وفي الحضارة الإنسانية بوجه عام.
أرسطو (384- 322 ق.م) ونظرته الأخلاقية للاقتصاد
أما أرسطو Aristotle، ابن أفلاطون النجيب، الذي شملت مؤلفاته العديد من المجالات الإنسانية، مثل: الفلسفة والمنطق والأخلاق والسياسة وغيرها. فقد أنشأ Lyceum وهي أكاديميته الخاصة في أثينا، حيث قضى فيها معظم ما تبقى من حياته يدرس، يُدرِّس ويكتب.
وكغيره من الفلاسفة الذين تطرقنا إليهم، لم تَخلُ كتابات أرسطو من الإشارة بشكل أو بآخر إلى الأفكار الاقتصادية. حيث عرَّف الاقتصاد كذلك بكونه “قواعد الإدارة الجيدة للشئون الأسرية”. هذا التعريف، حسب أرسطو، مرتكز على أسس أخلاقية، فكل فعل اقتصادي يجب أن يتوافق مع القيم الأخلاقية المثلى للمجتمع.
من هذا المنطلق، فإن إشباع حاجات الأسر المكونة للمجتمع يستلزم تطوير التبادلات التجارية التي يجب أن تكون أخلاقية وعادلة. لهذا، فالاحتكار بكل أشكاله أمر غير أخلاقي ينتج عنه تبادلات غير عادلة، فالمبادلات الاقتصادية يجب أن تكون مبادلات متكافئة يتساوى فيما ما يقدمه المرء بما يحصل عليه لتتحقق بذلك العدالة بين البائع والمشتري. وتُعدُّ هذه رؤية قاصرة فلم يخبرنا أرسطو عن الحافز وراء عملية التبادل بين البائع والمشتري، فما دام ما يضحي به الفرد يساوي ما يحصل عليه، فما الذي سيدفع بالمشتري للشراء مثلًا طالما أن منفعته ستظل ثابتة؟
حاول البعض تفسير مبادلة أرسطو المتكافئة في إطار مبدئه عن العدالة، وأنه لا يسمح بحصول استغلال لأحد الطرفين في عملية التبادل لتحقيق مكسب على حساب الطرف الآخر، بل يكفي أن يكون الدافع هو اختلاف ما يحصل عليه كل من الطرفين وأن أحدهما لم يكن ليحصل على ما يريد إلا من خلال التبادل. أما التفسير الثاني لفكرة المبادلة المتكافئة فيندرج في إطار إدانة أرسطو للاحتكار؛ أي أنه كان يشير لفكرة السوق التنافسي الذي يكون فيه التبادل بين أطراف متكافئة.
ووافق أرسطو أفلاطون في فكرته عن تقسيم العمل الناتج عن الاختلاف الجوهري بين الناس، وشرعنته للرِّق، إضافة إلى تقسيمه القيمة الاقتصادية لقيمة استعمالية (ذاتية) وتبادلية.
بين النظرية والواقع: ما لا يجب أن نغفل عنه
هدفنا من هذه السلسلة هو أن نوضح أن الأفكار والنظريات لا تقوم بذاتها، إنما هي نتيجة الظروف التي يعيشها المفكرين الاقتصاديين بما حولهم من ظروف تاريخية وثقافة سائدة. لذا فيجب علينا الاهتمام بمحيط وثقافة المفكر الاقتصادي قدر اهتمامنا بأفكاره. الماضي مرآة الحاضر، ففهمنا لتأثير الظروف التاريخية على أفكار الاقتصاديين في الماضي يمكننا من فهم الظروف التي نعيشها اليوم على الافكار الاقتصادية.
في المقال القادم، سنقفز بالزمن قرونا لنعيش مع مدرسة اقتصادية أخرى الظروف التي أدت إلى ظهور نظرياتهم الاقتصادية، فانتظرونا
هوامش
[1] قورش: أول ملوك فارس (560 :529 ق م) أسس أمبراطورية مترامية الأطراف, وأرسى مبادىء ممتازة لحكمها، في البدء احتل الكثير من الممالك المجاورة . مثل ليديا , وميديا , وبابل التي أطاح بها السنة 539 ق.م. وفي السنة 530 ق.م باتت فارس أكبر أمبراطورية في العالم. فعمد قورش إلى اعتماد طريقة تسمح بأن يكون للمناطق المحتلة أقصى درجة من الحكم الذاتي، فتميزت السياسة الأمبراطورية الفارسية طوال أجيال عدة بهذه السياسة.
[2] ملتيادس: (550: 489 ق.م) هو قائد يوناني، اشتهر بدوره في معركة ماراثون.
[3] مقدونيا هي دولة تقع في وسط شبه جزيرة البلقان في جنوب شرق أوروبا.
[4] هو أحد فلاسفة العصر اليوناني (469 – 399 ق.م)، أكثر ما وصلنا عنه كان عن طريق تلامذته زينوفون وأفلاطون، فهم المصادر الأساسية لمعرفة تاريخ سقراط، ويمثل سقراط وأفلاطون وأرسطو ذروة حضارة اليونان الفكرية، ويعتبر أرسطو بداية لمرحلة جديدة في تاريخ الفكر اليوناني.