سك العملة | نحو اقتصاد أكثر تنظيما
استعرضنا سابقا مساوئ استخدام المعادن الرخيصة، وكيف تم التحايل عليها، وكيف تم إيجاد الحل وتفضيل المعادن الثمينة والمفضلة لدى الشعوب من قديم الأزل؛ كالذهب والفضة لتصبح نقودًاً وتحوز إعجاب وقبول الجميع …
ولكن أليس للمعادن الثمينة قيمة في حد ذاتها؟ كيف يمكن أن تصبح نقودًا أو عملات وهى ذات قيمة أعلى؟! أو بالأصح كيف يتم التفريق بين قوة العملة كنقود يتم التعامل بها وكمعدن ثمين تم التصنيع منه؟!
اعتمدت الحكومات للحد من قيمة المعادن الثمينة والنادرة نظرًا لقيمتها الذاتية العالية المستخدمة؛ كعملات مثل الذهب والفضة على عملية السك؛ وذلك لإعطاء العملة قيمة ورقمًا تم تعيينهما سابقًا من السلطة السياسية …فماذا يُقصَد بسك العملة؟ ومتى بدأ ذلك؟
السك عبارة عن إعطاء العملة المصنوعة من أحد المعادن الثمينة كالذهب والفضة (بالرغم من أنه تم استخدام نفس العملية مع العديد من المعادن الرخيصة أيضًا) وزنًا وقيمة معينة تعتمد على حجم ووزن المعدن المصنوعة منه؛بحيث تختلف قيمة العملة باختلاف الوزن والعيار المطبوعَيَن عليها.
وبالتالي كان اللجوء إلى سك العملة هو محاولة لتقنين التبادلات الاقتصادية بين الأفراد وبسط سلطة الدولة عليها، لتصبح منذ بدء سك العملة أقوى فاعل اقتصادي وأكبرهم سلطة.
كيف بدأ هذا؟
أجمع أغلب الباحثين على أن أول من استخدم النقود هم الليديون lydians ، الذين سكنوا جنوب غـرب آسية الصغرى، وعاصمتهم مدينة ساردس sardis، في القرن الثامن قبل الميلاد. وبعد عام 700 قبـل المــــيلاد؛ قــــام ملــــوك ليــــديا بتقطيع الذهب والفضة بـأوزان وأحجـام محـددة، متأثرين بذلك بالحضارة البابلية، إلا أنهـم أضـافوا طابعًا أو ختمًا للملك على القطع الفضية والذهبيـة؛
لإضفاء الشرعية عليها ضمانًا لحاملها، وبذلك كان الليديون أول من سك النقود، وكان ذلك في عهد الملك كرويسيوس، سُـكًّت مـن معـدن الإلكتروم النقي (الذهب الأبيض)، ويقدر أنها سُكَّت في(ميلتس) في لونيا نحو600 قبل الميلاد، ويظهـر في الوجه أسد ينظر إلى الوراء، وفي الخلف زُينَت بالكلمات ورأس آيل.
ثم ما لبث الإغريق (سكان بحر إيجة) أن حذوا حذوهم في سك النقود، ثم بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، ومنها إلى بلاد فارس والهند، وأما في مصر فيعود تاريخ النقود إلى حوالي الألف الرابع قبل الميلاد، وفي الشرق الأدنى قام البابليون بوضع أول نظام نقد متطور وأقاموا المصارف والمدخرات وعنهم نقلها اليونان والرومان، وهكذا لقيت العملة المعدنية رواجًا لدى شعوب العالم القديم؛ وذلك لسهولة حملها، وقابليتها للتجزئة، وحفظها للثروة، وعدم قابليتها للتلف حتى أن قيمتها تعتبر ثابتة نسبيًا.
بعد ظهور النقود المعدنية في (ليديا) وبداية مرحلـة انتشارها في المدن المحيطة بها، واعتمادها كوحـدة نقد تلبي حاجات التعامل بين الأفراد فـي عمليـات التبادل السلعي، وبعد اتخاذها كوسيلة للادخار، لم نجد على هذه النقود نقوشًا وأرقامًا أو كتابات إلا نادرًا، والسبب في ذلك عدة عوامل نظرًا إلى أن عملية سك النقود كانت مبتكـرة في حينها، وجديدة على الفرد والمجتمع، وكذلك على المصمم أو الحرفي الذي يقوم بعمليـة الـسك، كما أنها لـم تتبلور أبعادها في التصميم بما تحمله من قيم وظيفية أو جمالية آنذاك، وعلـى سبيل المثال لا الحصر نقش الآلهة (أثينا) حاميـة مدينة أثينا، ونظرًا إلى أن شخصيات هذه النقـوش معروفة ومُدرَكَة من أفراد المدن ومجتمعاتهـا، لـم تكن الحاجة ماسة أو ضرورية لإضـافة عنـصر الكتابة إليها للتدليل على أصحابها.
مع تطور الحضارات القديمة لم تعد عمليـة التبادل التجاري بالنقود المعدنية محصورة بين أفراد المدينة الواحدة، فقد أصبحت هناك ضرورة للتعامل بتلك النقود بين المدن،وفيما بعد بـين الـشعوب، فكان لابد من استخدام الكتابة على النقود للتعريف بصاحب الصورة الملك، أو الإمبراطور، أو الآلهـة المنقوشة على سطح هذه النقود، وبالأخص للأمـم الأخرى التي لا تعـرفهم، ولاسـيما أن الأبـاطرة والآلهة كانت معرفتهم محـدودة فـي أقـاليمهم أو مدنهم، من هنا كان لابد من الكتابة لتتميز نقود كل مدينة عن الأخرى، علماً بأن تلك النقوش كانت مـن البساطة والبدائية بحيث لا يمكن أن تُعرف أصحابها.
كذلك من أسباب ظهور ضرورة وجود كتابات على العملات تعدد اللغات في البلـدان القديمـة، وكان هذا دافعـًا لبعض الأمم لنقش مفردات من لغتهم علـى النقـود المعدنية الخاصة بهم؛ لتمييزها عن نقود الآخرين بما تمتلكـه النقـود المعدنيـة مـن دلالات اقتصادية وجغرافية وسياسية، وفيما تجـسده مـن مضامين في قوة الحكام ونفوذهم، وكذلك نـزعتهم للسيطرة على البلدان التي يحتلونها أو يحكمونهـا، فقد ولَّدت لديهم رغبة إضافية لنقش أسمائهم وأسماء الآلهة التي تحميهم وتدعم حكمهم على هذه النقـود، فضللًا عن رغبتهم بنشر لغتهم وثقافتهم وحضارتهم في تلك الممالك التي آلت إليهم.
كيف تطورت عملية سك النقود؟
كان سك النقود في القديم يتم عن طريق صهر المعدن وسكبه في قوالب مُعدَّة بأشكال خاصة، ثم يوضع خاتم على قطعة النقود ويُطرَق عليه بشدة فيترك عليها أثره، وكثيرًا ما تُشاهد تشققات في أطراف قطعة النقود ناتجة عن هذا الطرق الشديد، ومنذ القرن الثامن عشر استُخدِمت مكابس الضغط اللولبية وتطورت إلى مكابس تعمل بالبخار، وتُعتمد حالًا مكابس كهربائية وهيدروليكية.
تتألف عملية سك النقود من عدة مراحل متتابعة؛ فيُصهر المعدن أو الخليط، ثم يُصب في قوالب على شكل قضبان تخضع إلى عملية سحب على شكل صفائح متجانسة السماكة والنوعية، ثم تُمرر هذه الصفائح على آلة تقطعها أقراصًا مستديرة، تدعى قرص السك، وتُفحَص هذه الأقراص للتحقق من دقة وزنها؛ فإن كانت أثقل من المطلوب يَجري جلخها إلى الوزن المطلوب، أما إذا كانت أخف من المطلوب فتُصهر من جديد،بعد ذلك يجري سحب حواف قرص السك المقبول نحو الخارج حتى تحمي القطعة النقدية من التآكل، ثم تُنظف وتُضغط في قوالب تحمل النقوش المرغوبة، وتُحزز حواف بعض أنواع النقود لتسهيل التعامل معها. ويتم اليوم تنضيد كل هذه المراحل في عملية مؤتمته متسلسلة.
كانت طريقة السك في النقود القديمة بدائية تشير إلى قلة الخبرة في علم المعادن، وقد تجلى ذلـك فـي المسكوكات الأولى من قالب السك، حيث تظهر فيهـا التفاصيل والكتابات بشكل دقيـق نـسبيًا، لكـن مـع استهلاك القالب في عملية تكرار الإنتاج تضيع تدريجيًا تفاصيل هذه النقوش وكتاباتها، ومن ثَم تفقد جانبًا مـن قيمتها الجمالية والوظيفية، يُضاف إلى ذلـك أن قلـة الخبرة والأدوات البدائية الموجودة بين يدي المـصمم الذي سك تلك النقود حدت مـن إبداعاتـه وإظهـار إمكانياته في الابتكار والتصميم، لهذا فإنما جاء مـن تصاميم في تلك المرحلة لم يرقَ إلى الحس الجمـالي في تكوين عناصرها، وما جاء متميـزًا منهـا كـان بمحض المصادفة؛ لأن المصمم في تلك المرحلة لـم يكن سوى حرفي ماهر .
مَرَّ الذهب والفضة بالعديد من التغيرات والتقلبات، وتم وضع العديد من القواعد لتنظيم الإنتاج والمعاملة بهما، كذلك مَرَّ العالم بكوارث اقتصادية أثرت كثيراً عليهما .. إنَّ التاريخ مثير وذاخر، وكيف استطاع الاقتصاديون المواكبة هو ما يثيرك أكثر .. دعونا نستعرض ونحلل سوياً ما مَرَّ بهما … دعونا نتساءل أين ذهبت هذه العملات الثمينة يا ترى؟! .. وهذا ابتداءً من المقال القادم إن شاء الله.