اقتصاديون من الزمن اللي فات (3) | دافيد ريكاردو
دافيد ريكاردو : البداية!
ولد دافيد ريكاردو في لندن وكان ترتيبه الثالث من بين سبعة عشر طفلًا لعائلة يهودية سفاردية من أصل إيطالي كانت قد استقرت في هولندا، ثم هاجرت إلى إنجلترا عام 1760 قادمة من أمستردام. أرسلته أسرته إلى هولندا للدراسة، ثم عاد إلى لندن عام 1786م، وعمل وهو في الخامسة عشر من العمر مع والده الذي كان سمسارًا ناجحًا في سوق الأوراق المالية. في العام 1793، انفصل دافيد عن عائلته؛ لأنه تزوج من سيدة مسيحية من طائفة الكويكرز، الأمر الذي أدى لطرد والده له من العمل.
ترك دافيد الديانة اليهودية واعتنق المسيحية وبدأ عمله كمضارب مستقل في البورصة واستطاع أن يجمع ثروة كبيرة في وقت قصير وهو لم يتجاوز السادسة والعشرين من عمره بعد، وأسس “شركة تحمل اسمه جعلته من كبار الأثرياء وهو لم يتجاوز الخامسة والثلاثين، فأصبح من ملاك الأراضي، كما ساعدته ثروته على عضوية مجلس اللوردات حيث قام بشراء مقعد في البرلمان الانجليزي (كما جرت العادة حينئذٍ) عن مقاطعة أيرلندية وظل في البرلمان من سنة 1819م حتى وفاته.
آدم سميث … مرة أخرى!
كان من نتاج تحقيق دافيد ريكاردو لثروته، أن تفرغ للاطلاع، ففي عام 1799م قرأ “ثروة الأمم” لآدم سميث فتأثر به وشعر بالميل لعلم الاقتصاد فبدأ في الكتابة حـول بعض القضـايا المالية والاقتصادية الهامة في إنجلترا آنذاك، وفي العام 1814م، اعتزل دافيد البورصة وعالم المال، واتجه إلى دراسة الاقتصاد، كما نشأت علاقة فكرية بينه وبين الاقتصاديين جيمس ميل وتوماس مالتوس، كل هذا جعله يتجه للإنتاج الفكري والمعرفي في علم الاقتصاد ليصبح أحد أهم مؤسسي علم الاقتصاد السياسي الحديث.
أشهر مؤلفات ريكاردو
ألف ريكاردو كتابه “مبادئ الاقتصاد السياسي و الضرائب” في عام 1817م ويعد الكتاب هو المرجع الأساسي لريكاردو في الاقتصاد السياسي، وهو كتاب لا يمكن لمهتمٍ بحقل العلوم الاقتصادية تجاهله أو تجاوزه على الإطلاق.
بالإضافة إلى مؤلفات أخرى منها “الثمن الباهظ للسبائك: برهان على تلف الأوراق النقدية” في عام 1810م، و”مقالة حول تأثير السعر المنخفض للذرة على أرباح الأسهم” عام 1815م.
مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب
في عام 1821 أتم ريكاردو الإصدار الثالث من عمله الشهير “مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب” (Principles of Political Economy and Taxation)، وقد لخص غرضه من تأليفه في مقدمته : “تتوزع ملكية خيرات الأرض – التي يتم استخراجها عبر المزج بين العمل والآلات ورأس المال- على ثلاث طبقات اجتماعية هي طبقة مالكي الأراضي، وطبقة مالكي رأس المال المطلوب لعملية الإنتاج، وطبقة العمال. ويعتبر تحديد القوانين التي تنظم طريقة توزيع الثروات المشكلة الأساسية في الاقتصاد السياسي”.
في هذا الكتاب المكون من 32 فصلًا، يعتبر دافيد ريكاردو أن الإشكالية الأساسية فى الاقتصاد إنما تتعلق بمسألة تحديد القوانين التي تنظم عملية توزيع الدخل، مختلفًا مع سميث الذي رأى أن المشكلة في تنظيم الإنتاج، على الرغم من أن كلاهما قد صاغ مشكلته في إطار أن قيمة السلع تتحدد وفق ندرتها بالإضافة إلى كمية العمل المطلوبة للحصول عليها.
وقد حاول ريكاردو من خلال الكتاب البحث عن حلول للمشكلات المطروحة في عصره مثل التضخم وانخفاض قيمة العملة الورقية وارتفاع أسعار الذهب في فترة كانت تعرف فيها بريطانيا و بعض دول أوروبا ارتفاعا كبيرا في نسبة الإنتاج نتيجة للثورة الصناعية، وقد أدى إلى نتيجة حتمية وهي أن نمط الإنتاج الرأسمالي هو المحرك الأساسي لعجلة النشاط الاقتصادي ولا يمكن استبداله بنظام آخر.
نظريات ريكاردو الاقتصادية
وقد ساهم ريكاردو بالعديد من النظريات في الاقتصاد عمومًا والاقتصاد السياسي خصوصًا فعلى سبيل المثال لا الحصر: نظرية التجارة الدولية، نظرية القيمة، نظرية السكان، نظرية الأجور،قانون الإنتاجية المتناقصة.
وفيما يلي سنتناول أهم إسهامات ريكاردو في النظرية الاقتصادية:
- نظرية التجارة الدولية:
لأن ريكاردو من تلك المدرسة التي ترى بالحرية المطلقة للسوق، فهو من أهم المساهمين في مفهوم “التجارة الحرة” العالمية، ولاسيما عبر طرحه “نظرية الميزة النسبية ” (Theory of Comparative Advantage)، وتأكيده على فكرة “اليد الخفية” التي روّج لها آدم سميث.
فحرية التجارة الدولية عنده تعني أن تتم التبادلات الاقتصادية بين الدول دون فرض رسوم على الواردات والصادرات بهدف تشجيع هذه التبادلات يقول ريكاردو : “عند اتباع منظومة التجارة الحرة بشكل كامل، فإن كل دولة ستحرص كل الحرص على تكريس رأسمالها وعملها للمجالات التي تصب في صالحها وصالح الأطراف الأخرى، وبهذا الشكل يكون هذا السعي للمصلحة الذاتية متصلًا على نحو وثيق بالصالح العام في كل العالم.
ويتسم هذا النظام بقدرته على توزيع العمل بأفضل طريقة ممكنة وأكثرها كفاءة اقتصاديًا عبر تقديم الحوافز للقطاعات المختلفة، ومكافأة الإبداع والابتكار، وتسخير كل الإمكانيات التي تتيحها الطبيعة، ومن خلال زيادة الإنتاج؛ وبذلك يساهم هذا النظام في نشر الخير العام ويشكل رابطًا بين مختلف دول العالم المتحضر نظرًا للتداخل الوثيق بين مصالحها”.
ببساطة، يحاول ريكاردو في الاقتباس السابق أن يقول بأن التجارة الخارجية بين دولتين تعود بالفائدة عليهما معا. لكن كيف يحدث ذلك؟
دعونا نأخذ المثال التالي لدولتين هما إنجلترا والبرتغال، كلاهما يستطيعان إنتاج نوعين من السلع (المنسوجات والزيوت) وتصديرهما للبلدان الأخرى.
بالنسبة لكل بلد من البلدين فهي تحتاج تكلفة معينة لإنتاج السلعة، فالوقت التي تحتاجه إنجلترا لإنتاج متر واحد من القماش ليس نفسه الوقت الذي تحتاجه البرتغال لإنتاج نفس السلعة، وهذا الاختلاف ناتج عن الخبرة في الصنعة لدى صانعي البلدين وكذلك الأدوات المستخدمة في النسيج.
بالنسبة لدولة “إنجلترا”
يستطيع العامل الإنجليزي إنتاج متر من القماش خلال ساعتين بينما يحتاج ساعة واحدة فقط لإنتاج لتر من الزيت، نلاحظ هنا أن تكلفة إنتاج متر من القماش هي ضعف تكلفة لتر من الزيت (يمكننا القول أيضا أن تكلفة إنتاج لتر من البنزين هي نصف تكلفة إنتاج متر من القماش) فبحسب مبدأ تكلفة الفرصة البديلة التي تعرفنا عليه سابقا، فإنتاج انجلترا مترا من القماش تكون قد ضحت بإنتاج لترين من الزيت (يمكننا القول أيضا أن إنجلترا إذا أرادت إنتاج لتر من الزيت فهي تضحي فقط بإنتاج نصف متر من القماش(
بالنسبة لدولة “البرتغال”:
بنفس المنطق فإن العامل البرتغالي يستهلك 3 ساعات لإنتاج متر واحد بينما يستهلك 4 ساعات لإنتاج لتر واحد من الزيت، نلاحظ أيضا أن تكلفة إنتاج متر من القماش تساوي ثلاثة أرباع (75 %) من تكلفة إنتاج لتر من الزيت، لذا فإن أخذ البرتغال القرار بإنتاج وحدة من المنسوجات يعني تضحيتها فقط بـــ (¾)وحدة من الزيت.
ومما سبق نجد أن:
- البرتغال تمتلك ما يمكن أن نسميه “ميزة نسبية” في إنتاج المنسوجات حيث أن إنتاجها للمنسوجات يعني التضحية فقط بإنتاج (¾) وحدة من الزيت، بخلاف إنجلترا التي إذا أرادت إنتاج وحدة من المنسوجات فهذا يعني تضحيتها بوحدتين من الزيت!
- وعلى العكس، نجد أن إنجلترا تمتلك “الميزة النسبية” في إنتاج الزيت حيث أن إنتاجها للزيت يعني التضحية فقط بإنتاج نصف متر من القماش، بخلاف البرتغال التي إذا أرادت إنتاج لتر من الزيت فهذا يعني تضحيتها بما يساوي مترا وثلث المتر تقريبًا من المنسوجات!
وعليه؛ فحسب تحليل ريكاردو يمكن أن تقوم التجارة بين كل من دولتي إنجلترا والبرتغال، فتتخصص كل منهما في السلعة التي تمتلك ميزة “نسبية” فيها وتصدر تلك السلعة للدولة الأخرى.
2. قانون تناقص الغلة (الإنتاجية)
كتب ريكاردو في “مقالة حول تأثير السعر المنخفض للذرة على أرباح الأسهم” عام (1815م) بوضوح ما أصبح يعرف باسم قانون تناقص الغلة؛ حيث يرى ريكاردو أن الإنتاج يمر بثلاثة مراحل، وأوضح ريكاردو فيها أن زيادة أحد عناصر الإنتاج (العمل مثلًا) مع ثبات باقي عناصر الإنتاج (رأس المال، الأرض، ..) يؤدي إلى زيادة الناتج الكلي في البداية (المرحلة الأولى: مرحلة تزايد الغلة الإنتاجية) حيث تكون عناصر الإنتاج أكثر كفاءة ثم بعد ذلك يبدأ بالزيادة بمعدل متناقص (المرحلة الثانية: مرحلة ثبات الغلة)، ومع المزيد من إضافة عنصر الإنتاج )العمال مثلاً) فإن الإنتاج يبدأ في التناقص (المرحلة الثالثة: مرحلة تناقص الغلة).
إذا افترضنا مصنعًا لإنتاج لعب الأطفال، به عشرة ماكينات تحتاج كل منها إلى عامل ليقوم بتشغيلها، في البداية قمنا بتوظيف أربعة عمال، عندها سنجد أن الإنتاج اليومي للمصنع هو عشرون لعبة يوميًا (إنتاجية العامل 5 لعب يوميًا).
- لزيادة الإنتاجية قمنا بتعيين ثلاثة عمال فأصبح الإنتاج اليومي للمصنع 49 لعبة أطفال يوميًا (إنتاجية العامل 7 لعب يوميًا)
بعد شهر قام صاحب المصنع بتعيين عامل آخر ليرتفع الإنتاج اليومي إلى ستين لعبة أطفال يوميًا، فأغرت هذه الزيادة صاحب العمل بزيادة توظيف العمال لتحقيق أرباح أكثر من خلال إنتاج ومبيعات أكثر. - في غمرة فرحة صاحب المصنع بالأرباح المتزايدة قام مرة أخرى بتعيين عاملين بعد ذلك ليرتفع عدد العمال إلى عشرة عمال مع ثبات عدد الماكينات (عشرة ماكينات) وبالفعل ارتفعت إنتاجية المصنع اليومية لتصبح 75 لعبة يوميًا (إنتاجية العامل 7.5 لعبة يوميًا).
- لكن و مع ذلك ولتحقيق المزيد من الأرباح قام صاحب المصنع بزيادة عدد العمال مرة أخرى فقام بتعيين عاملين آخرين. وعند حساب الإنتاجية اليومية فوجئ صاحب المصنع بأن الإنتاج اليومي قد انخفض ليصبح 72 لعبة أطفال يوميًا بمعدل إنتاجية 6 لعب للعامل.
إذا تهت في دوامة الأرقام فإليك الجدول التالي
لماذا انخفضت الإنتاجية رغم إضافة عاملين جديدين؟
ببساطة، أدى تعيين العاملين الجدد إلى انخفاض الإنتاج لأنهم أصبحوا يمثلون عبئًا على المصنع؛ بسبب تكلفة أجر كل منهم بالإضافة إلى عدم وجود ماكينات لهم ليعملوا عليها، وبالتالي فالدخول في هذه المرحلة لن يكون مفيدًا اقتصاديًا، حيث تكون زيادة عدد العمال لا تضيف شيئاً للإنتاج الكلي بل وقد تؤدي لتدهور الربح، فليس العبرة بعدد العمال لكن بمساهمتهم في الإنتاج.
وختامًا، يمكننا القول أن ريكاردو يعتبر أحد أهم أعلام التيار الكلاسيكي، وثاني أهم مرجع في الاقتصاد السياسي بعد آدم سميث، بل يمكننا الجزم بأنه قدم إسهامات أكثر تأثيرا من تلك التي قدمها آدم سميث نفسه في الاقتصاد السياسي، إلا أنه و رغم الإسهامات العبقرية التي قدمها لعلم الاقتصاد ظل متمركزا تحت مظلة الفكر الليبرالي الرأسمالي الذي كانت تقوده بلاده بريطانيا آنذاك وصاغ كل نظرياته في كنف هذا الفكر ولخدمة مصالحه ضاربا بعرض الحائط كل الأسس الأخلاقية التي كان هو نفسه يتغنى بها حين قال: “إن أي عمل يعتبر منافيا للأخلاق، ما لم يصدر عن الشعور بالمحبة للآخرين”.